كتبت “الأخبار”:
بات واضحاً أن إدارة جو بايدن قرّرت تغيير استراتيجيّتها في التعامل مع الملفّ الإيراني، مُفضّلةً العودة إلى استراتيجية سلفها دونالد ترامب، في استخدام أساليب ضغط متعدّدة الأوجه، بهدف حمْل طهران على التنازل على طاولة التفاوض. وإذ يبدو أن هذه الإدارة قرّرت أخيراً الاستجابة لجزء من مطالب تل أبيب، وعلى رأسها رفض رفْع الحرس الثوري عن «قائمة الإرهاب» – الأمر الذي أدخل مفاوضات فيينا في حالة سبات – فالظاهر أنها قرّرت أيضاً الانخراط في دورة العمل الإسرائيلية ضدّ إيران، والتي تتّخذ حالياً شكل عمليات أمنية أكثر تطوّراً من النسخ السابقة، بهدف إفهام طهران ضرورة خفْض سقفها في فيينا. ضمن هذا السياق تحديداً، يمكن فهم عملية اغتيال العقيد صياد خدائي، والتي لا تفتأ تل أبيب تترقّب وتتحسّب للردّ الإيراني عليها. على أن ذلك الردّ المنتظَر قد يكون من شأنه التأسيس لمعادلات تُخالف حسابات واشنطن وتل أبيب، ولربّما لن تكون في مصلحتهما البتّة، الأمر الذي يحمل مراقبين إسرائيليين على الدعوة إلى «اللعب بحذر شديد مع الإيرانيين»
أخرج «التسريب الأميركي» لصحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، حول اغتيال العقيد الإيراني حسن صياد خدائي في طهران، بحسب الإسرائيليين، حرباً كانت سرّية إلى حدّ ما، بين العدوّ الإسرائيلي وقوى «محور المقاومة»، وبشكل خاص إيران. ولئن كانت معظم أحداث هذه الحرب تجري خارج الساحة الإيرانية، وبالخصوص في سوريا، حيث يمتلك العدو أفضلية نسبيّة، نتيجة غياب ما يكفي من معادلات الردع، على عكس الساحة اللبنانية مثلاً، وخصوصاً في ما يخصّ استهداف المنشآت العسكرية الإيرانية، ما أدّى في أحيان عدّة إلى استشهاد عدد من الضبّاط والمستشارين الإيرانيين، فقد بدا في الأشهر الأخيرة أن العدو الإسرائيلي، نتيجة تكثيف عملياتي إيراني، قرّر توسيع ساحة هذه الحرب التي تُخاض في الخلفية، لتشمل الساحة الإيرانية، بما فيها قلبُ العاصمة طهران. ومحور هذه «الحرب»، هو تكنولوجيا الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، حيث إنه منذ هجوم «آرامكو» في 2019، تمّ رفع موضوع التعامل مع الطائرات المسيّرة في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى «أولوية قصوى».
بدأ الانتقال إلى مستوى جديد من هذه الحرب، وخصوصاً لناحية توسيع الحدود الجغرافية للمواجهة، عندما اكتشفت أنظمة الرادار والإنذار الأميركية في العراق، في بداية شهر شباط الفائت، طائرتَين بدون طيّار، زُعم أنهما انطلقتا من إيران، وكانتا في طريقهما إلى أجواء فلسطين المحتلة، وجرى إسقاطهما بواسطة الطائرات الأميركية. لكن، بعد حادثة المسيّرتَين هاتين، وخلال وقت قصير، استهدفت طائرات مسيّرة إسرائيلية مصنعاً لإنتاج وتطوير «الدرونز» في كرمانشاه شمال غرب إيران. بعد ذلك، وفي الشهر التالي، استهدفت إيران، علناً، بالصواريخ الباليستية المتوسّطة المدى، مركزاً كان يستخدمه جهاز «الموساد» الإسرائيلي في أربيل، وفق رواية الحرس الثوري. وبحسب الإسرائيليين، فإن حادثة المسيّرتَين «كانت واحدة من سلسلة طويلة من المحاولات الإيرانية لإطلاق الطائرات بدون طيار مع إمدادات الأسلحة والذخيرة لحماس، أو لغرض جمع المعلومات الاستخبارية، أو لغرض ضرب أهداف في إسرائيل». ولم يُنكر الإيرانيون الرواية الإسرائيلية هذه بالكامل، فقد أكّد قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، في وقت لاحق في نيسان الفائت، تنفيذ طائرات مسيّرة إيرانية «عملية ناجحة» في أجواء فلسطين المحتلة. وقال قاآني، مُخاطباً قادة الكيان المحتلّ: «من أين أتت الطائرات من دون طيار؟ لقد وظّفتم 41 طائرة مقاتلة واستطلاعية لاعتراض طائرتَين مسيّرتَين، لماذا كذبتم؟! العمليات التي حدثت في فلسطين بعد هذه الحادثة من أين وكيف وصلت معدّاتها (في إشارة إلى معدّات وتجهيزات عسكرية). أنتم لستم على استعداد لقول الحقيقة بشكل صادق». ويؤشّر سياق حديث قاآني إلى أن الحرس الثوري، بالتعاون مع قوى المقاومة في فلسطين، وربّما في ساحات أخرى، قد يكون تمكّن من إيصال معدّات عسكرية وغير ذلك إلى الأراضي المحتلة، عبر الطائرات المسيّرة، وهذا ما يشكّل تهديداً استثنائياً لا يُحتمل بالنسبة إلى المنظومة الأمنية الإسرائيلية. وابتداءً من هذه الأحداث، التي لم تكن هي بداية الحرب الخفية تلك، بدأت المواجهة حول تكنولوجيا صناعة وتطوير ونقل ونشر المسيّرات، تطلّ برأسها إلى العلن، حيث يراها العالم.
في الأيام الأخيرة، اغتالت إسرائيل العقيد في الحرس الثوري، خدائي، الذي يبدو ممّا جرى الحديث عنه في الإعلام، أنه مسؤول في شؤون التكنولوجيا والتطوير في «قوة القدس»، وأنه عمل لسنوات طويلة في عدّة ساحات خارج إيران، منها سوريا (ربْط الشهيد بمهامّ أمنية كالاغتيالات والخطف وغيره، يهدف إلى منح العدو مشروعية للاغتيال، وهو من صناعة الإعلام الإسرائيلي الموجّه فقط). وبالمناسبة، فقد أطلقت وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية على خدائي لقب «المدافع عن الحرم»، وهو اللقب الذي يُمنح للمستشارين العسكريين الإيرانيين الذين يستشهدون في سوريا بالتحديد. وبعد الاغتيال بيومين، وقع هجوم بطائرة مسيّرة على مجمع بارشين لتطوير الصواريخ والمسيّرات في جنوب شرق طهران، ما أسفر عن استشهاد مهندس شاب كان يعمل هناك لمصلحة وزارة الدفاع، بحسب وسائل إعلام إيرانية. وادّعت «نیویورك تایمز»، في تقریر لها حول الحدث، أن النمط المستخدَم لتنفیذ الهجوم یتطابق مع الأسالیب الإسرائیلیة، علماً بأنها ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها موقع بارشين العسكري للهجمات.
ويُشكّل اغتيال خدائي، وهجوم بارشين، ترجمة عملياتية لما أعلنه قادة العدو، ورئيس الحكومة نفتالي بينت بالتحديد، في أكثر من مناسبة، من إرادتهم نقل المعركة إلى إيران، في مقابل دعم الأخيرة للمقاومة في فلسطين. وقبل يومين فقط، قال بينت، في مستهلّ جلسة للحكومة إن «إيران تستثمر في الإرهاب، مثل قاعدة الطائرات المسيَّرة الواقعة تحت الأرض التي عرضوها خلال الأيام الأخيرة»، في إشارة إلى ما عرضته وسائل الإعلام الإيرانية من جولة لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية في قاعدة تحت ــــ أرضية، تضمّ مئات المسيّرات المختلفة والمتطوّرة. وأضاف بينت إن «النظام الإيراني تعمَّد على مدى سنين طويلة تفعيل وكلائه ليمارسوا الإرهاب ضد إسرائيل والمنطقة، إلا أن رأس الأخطبوط، بمعنى إيران نفسها، قد تمتّع بالحصانة لسبب ما»، مشيراً إلى أن «عهد الحصانة التي تمتّع بها النظام الإيراني انتهى. من يموّل الإرهابيين ويزوّدهم بالسلاح ويرسلهم، عليه أن يدفع كامل الثمن». وفي كلام بينت زُبدة القصة. إذ تتّهم تل أبيب الحرس الثوري بتزويد حركات المقاومة في المنطقة، وفي فلسطين بشكل خاص، بتكنولوجيا متطوّرة في عالم المسيّرات والصواريخ، كما تتّهمه بقيادة وتوجيه أنشطة عملياتية مباشرة ضدّ أهداف إسرائيلية، ومن هنا كان منشأ مسار الاستهدافات الأخيرة.
في الظروف المحيطة بالأحداث الأخيرة، التي ارتفعت وتيرتها بوضوح، وخصوصاً عملية اغتيال خدائي، لم يكن صدفة بالتأكيد أن يجري تنفيذ الاغتيال بينما يزور وزير الأمن في حكومة العدو، بني غانتس، العاصمة الأميركية واشنطن، حيث التقى عدداً من المسؤولين الأميركيين الأمنيين والعسكريين. ويؤشّر هذا السياق إلى موافقة أميركية نالتها إسرائيل لتنفيذ هذه العملية وغيرها. ويؤكد ذلك ما نشرته «نيويورك تايمز» حول إيلاغ إسرائيل، الولايات المتحدة، بأنّها المسؤولة عن الاغتيال. وعلى الرغم ممّا أثاره الكشف الأميركي حول المسؤولية الإسرائيلية عن الواقعة، من استياء في تل أبيب، لما قد يجلبه من ردود إيرانية بحسب المسؤولين في الكيان، إلّا أن التسريب يمكن فهمه في سياق أميركي – إيراني خالص، حيث يشكّل إشارة ضغط من واشنطن على طهران، في ظلّ تعثّر العودة إلى الاتفاق النووي، على نحو تقوم فيه إسرائيل بدور العصا التي ترفعها واشنطن في وجه طهران، الى جانب الجزرة. وهذا يتساوق مع موقف المبعوث الأميركي الخاص بإيران، روبرت مالي، قبل أيام في مطالعة أمام «الكونغرس»، حين وصف فرص إحياء الاتفاق بـ«الضعيفة في أحسن الأحوال»، مشيراً الى أن «الولايات المتحدة مستعدّة لمواصلة فرض العقوبات وتشديدها، والردّ بقوة على أيّ تصعيد إيراني، والعمل بالتنسيق مع إسرائيل والشركاء الإقليميين». وما يعنيه السيناريو المتقدّم، هو أن المنطقة قد تكون أمام ضربات متبادلة في الفترة المقبلة، بين إيران وحلفائها من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما من جهة أخرى، إلى حين الوصول إلى أرضية جديدة لاستكمال التفاوض النووي، ربّما بشروط مختلفة، إن كان لا يزال ذلك ممكناً.