كتبت “الاخبار”:
يثبت الزواج المدني «عن بعد»، الذي بدأ ينتشر أخيراً، حقيقة لا لبس فيها: أن أحداً لا يمكنه الوقوف في وجه شخصَيْن راغبَيْن في عقد زواج مدني اختياري، كما لا يمكن لـ«انفصام» الشخصية القانونية للدولة، التي تمنع الزواج المدني على الأراضي اللبنانية وتعترف به إن أُبرم في الخارج، أن يستمرّ.
ردّاً على معارضة السلطة اللبنانية عقد زيجات مدنية على أراضيها، توجّه الميسورون من أصحاب هذا القرار، على مدى عقود، إلى قبرص وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية. تزوّجوا مدنياً ثم سجّلوا زيجاتهم في الدوائر الرسمية اللبنانية. أما غير الميسورين، فمنهم من عقد زيجة مدنية في لبنان بعد شطب القيد الطائفي، فلم تُسجّل إلى اليوم، ليواجهوا خطر إنجاب أولاد «غير شرعيين»، ومنهم من «أُرغم» على عقد زواج ديني، أو التخلي عن الزواج ممن يحب لأنه ينتمي إلى ديانة مختلفة عن ديانة الشريك. هؤلاء قد تتغيّر أحوالهم مع انتشار عقود الزواج المدني «عن بُعد»، والتي حطّمت قيوداً تبدأ من تكاليف الزواج المرتفعة في الخارج ولا تنتهي عند صعوبة الحصول على جوازات سفر للعروسين.
أول زواج مدنيّ عن بُعد
قبل أيام، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي خبر زواج عمر عبد الباقي ونجوى سبيتي مدنياً، عن بُعد، بالاستعانة بقاض أميركي من ولاية يوتا. تناقلت الصفحات صوراً من حفل زفاف العروسين الذي أقيم في بلدة ضهور الشوير في المتن. خلافاً لما أشيع، لم تكن هذه الخطوة الأولى من نوعها. فأول زواج مدني عن بُعد يعود إلى 28 تشرين الثاني عام 2021، عندما عقد خليل رزق الله وندى نعمة زواجهما عبر تطبيق «زووم» مستعينين أيضاً بقاضٍ من ولاية يوتا الأميركية.
يروي خليل لـ«الأخبار» كيف وُلدت هذه الفكرة: «أثناء البحث عن بلد غير قبرص وتركيا لعقد زواجنا المدني، بما أنه سبق لنا زيارة هذين البلدين، فوجئنا بخيار جديد لم يكن في الحسبان وهو الزواج أونلاين». فضّلا هذا الخيار «لنكون بجوار الأهل والأصحاب أثناء فرحتنا، وليتسنى في الوقت ذاته لغير المقيمين في لبنان مشاركتنا الفرحة عن بُعد». بعد التأكد من قانونية هذه الزيجة، أرسلا الأوراق المطلوبة إلى ولاية يوتا عبر البريد، وعبره أيضاً حصلا على وثيقة الزواج، أما التوقيع على عقد الزواج فكان افتراضياً. وبعد خمسة أشهر سجّلا زواجهما في الدوائر الرسمية اللبنانية وحصلا على إخراج قيد عائلي.
بعدها، أنشأ خليل وندى موقعاً إلكترونياً باسم Marrycivil.com، وصفحة على «فايسبوك» وأخرى على «إنستغرام» للإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي وردتهما، وللردّ على استفسارات الراغبين في تكرار التجربة. يقول خليل: «ساعدنا أكثر من 15 ثنائياً في الزواج المدني عن بُعد، وجميعهم بانتظار تسجيل زواجهم في لبنان». يوضح: «لسنا ضد الزواج الديني ولا نتحدى السلطات السياسية أو الدينية ولا نشجع أحداً على الزواج المدني، إلا أننا نساعد الراغبين في اختياره والعاجزين عن السفر لمختلف الأسباب لتحقيق رغبتهم».
عمر ونجوى
لم تحظَ أولى زيجة مدنية عن بُعد بصخب إعلامي ولا حتى الزيجات التي تلتها، لذا ظنّ كثيرون أن زواج عمر عبد الباقي ونجوى سبيتي هو الأوّل من نوعه. فكّرا بالسفر لإتمام زواجهما، لكن «بعدما أمّنا المال اللازم واجهنا صعوبة في الحصول على جوازات السفر، ففي أقرب وقت يمكن لنجوى الحصول فيه على جواز سفر، تكون صلاحية جواز سفري قد انتهت» يقول عمر.
ومع ذلك لم ييأس الأستاذان، عمر أستاذ رياضيات ونجوى معلّمة لغة إنكليزية، واستلهما من جلوسهما لساعات خلف شاشة الحاسوب للتعليم «أونلاين» على مدار ثلاث سنوات حلاً لمعضلتهما: «نتزوج أونلاين». أثارت هذه الخطوة استغراب البعض ممن رأوها «ولدنة وطيش»، وسخرية البعض الآخر الذين علّقوا في مواقع التواصل الاجتماعي: «بكرا بجيبوا ولادهم أونلاين». لكنّ عمر ونجوى أكّدا للجميع: «مثلما نخرّج طلاباً عن بُعد من دون أن يروا الجامعة ونعترف بشهاداتهم، نتزوّج كذلك». وأضافا: «الزواج إشهار ونحن أشهرنا زيجتنا، بل صنعنا لها دعاية». يختم عمر حديثه مؤكداً أن «الناس سيحاربون ليمارسوا حريتهم في اختيار شكل الزواج الذي يريدون»، مستشهداً بما غنّته فيروز: «إذا مش بكرا، اللي بعده أكيد».
هل تُسجَّل الزيجات عن بُعد؟
تختلف الزيجات المدنية الأخيرة التي عُقدت افتراضياً عن غيرها. فهي، ظاهرياً، معقودة في لبنان، ما قد يعرّضها لما تواجهه العقود التي أُجريت في لبنان من مشكلات، لجهة عدم تسجيلها كما هو حاصل حالياً. لكن ما جرى فعلياً في لبنان هو المراسم الاحتفالية فقط، من دون أي رابط قانوني مع البلد الأمّ. قانونياً، هو زواج معقود في ولاية أميركية تسمح بعقد زيجات عن بُعد. فكيف ستتعامل السلطات اللبنانية معها؟
لا يخفي وزير الداخلية السابق زياد بارود بدايةً تخوّفه «بعض الشيء» من موقف وزارة الداخلية حيالها، ثم يعود ليطمئن: «سيصعب على الإدارة اللبنانية رفض التسجيل، فهذه الزيجات شبيهة بالزيجات المدنية المعقودة خارج الأراضي اللبنانية». يشرح: «إذا أراد الزوجان أن يسجّلا زواجهما، فسيسلكان المسار القانوني ذاته لدى تسجيل الزيجات المعقودة في الخارج من إرسال الأوراق إلى البعثة الدبلوماسية، ومنها إلى وزارة الخارجية، فالداخلية».
«الأخبار» نقلت مخاوف بارود إلى وزارة الداخلية وسألت عن موقفها حيال الزواج المدني الأخير عن بُعد، فرفضت التعليق واكتفت بالقول: «الأوراق لم ترد إلى وزارة الداخلية بعد، وحين تصل يجري البحث في الموضوع». وعن سؤالها: «لمَ لا تأخذ الداخلية قراراً للحدّ من مهزلة تسجيل الزيجات المدنية في الخارج ورفض الاعتراف بتلك المعقودة في الداخل، خاصة أنه في عهد وزير الداخلية السابق مروان شربل مُرّرت 13 زيجة مدنية في لبنان؟» تجيب: «الأمر يحتاج إلى إصدار قانون للزواج المدني وكلّ اقتراحات القوانين في هذا المجال لا تزال في مجلس النواب».
اللامساواة: زيجات غير مسجّلة
في ظلّ تجميد أيّ محاولة لإقرار قانون للزواج المدني، حاول لبنانيون اجتراح حلول لهذه المشكلة مستفيدين من تعميم صدر في شباط عام 2009 يعطي الحق لمن يرغب في شطب القيد الطائفي من سجلّات الأحوال الشخصية. أمر أتاح تسجيل أول زواج مدني في لبنان عام 2013 بين خلود سكرية ونضال درويش عقده الكاتب العدل جوزيف بشارة. كرّت من بعدها سُبحة الزيجات المدنية في لبنان لتصل إلى أكثر من 50، سُجّل منها 13 فقط في عهد وزير الداخلية السابق مروان شربل. ومع وصول الوزير السابق نهاد المشنوق إلى الوزارة، أعيد دفن الزواج المدني في لبنان لرفضه توقيع عقودها، وعلى نهجه سار كلّ من الوزيرة ريّا الحسن التي أعادت فتح الملف وأغرقت اللبنانيين بالوعود للإفراج عن العقود المكدّسة في أدراج المديرية العامة للأحوال الشخصية من دون أن تفي بها، ثم الوزير السابق محمد فهمي، وصولاً إلى وزير الداخلية الحالي بسام المولوي.
ما سبق يضرب مبدأ المساواة في التعاطي مع اللبنانيين. فكيف تُسجَّل 13 زيجة مدنية ولا تزال تصدر إخراجات قيد عائلية لأصحابها، ويضاف الأطفال الحديثو الولادة إلى السجلّ العائلي لذويهم، ولا تُسجَّل الزيجات التي تبعتها، وكان آخرها زواج المحاميين عبدالله سلام وماري جو أبي ناصيف اللذين لم يُسجّل زواجهما وحُرما من إخراج قيد عائلي؟
عن ذلك يجيب بارود: «لم يكن أمر تسجيل الزيجات الـ13 سهلاً أبداً، بل جاء نتيجة استشارات، والهيئة الاستشارية العليا في وزارة العدل أعطت رأياً إيجابياً للتسجيل في ذلك الوقت. ما حصل بعدها هو تبدّل الوزارات وبروز مواقف سياسية مضادّة وضغوطات لوقف الزيجات المدنية وهذا مستمرّ إلى الآن». ويلفت بارود إلى أن «تسجيل هذه الزيجات لا يحتاج إلى توقيع الوزير وإنما هو أبسط من ذلك، ويمرّ في المديرية العامة للأحوال الشخصية، لكن من الواضح أن وزراء الداخلية المتعاقبين عمّموا على الأحوال الشخصية عدم تمريرها».