كتبت “الاخبار”:
دفع زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الوضع المتأزّم منذ أشهر في العراق، نحو المجهول، بعدما أفلت أنصاره الموجودين في الشارع على غاربهم، متنصّلاً من المسؤولية عن كلّ ما يقومون به، بإعلانه اعتزال العمل السياسي نهائياً. خطوةٌ أعادت وضع البلاد تحت شبح الانزلاق إلى اقتتال شيعي – شيعي، مع ما يعنيه هذا السيناريو من مخاطر كبيرة على مستقبلها. وإذ عادت عوامل التهدئة لتتفعّل مساء أمس، وخصوصاً في ظلّ ما بدا أنه حرص أميركي – إيراني على إبقاء الأمور تحت السيطرة، فإن ما جرى يجلّي مدى الاستفحال الذي بلغته الأزمة العراقية، والذي يمكن أن يعاود الانفجار إذا لم يُبتدع حلّ عاجل للخروج من عنق الزجاجة
ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي. لكن بخلاف المرّات السابقة، بدا هذه المرّة أن المقصود هو إطلاق العنان لمؤيّديه للتحرّك من دون ضوابط، ليضع البلد أمام أخطر منعطف منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، في محاولة لكسر التوازن الذي قام عليه الحُكم مذّاك، وفرْض إرادته على القوى الأخرى، سواء في «المكوّن الشيعي»، أو في «المكوّنات» الأخرى. وعلى رغم ساعات التوتّر التي امتدّت حتى الليل، بدا أن الأطراف اختارت التراجع خطوة عن حافّة الهاوية، بعدما انسحب جزء من الصدريين من «المنطقة الخضراء»، إثر قيامهم باجتياح مقرَّي الحكومة ورئاسة الجمهورية. وسُجّل، في خلال ذلك، إطلاق نار كثيف لم يتّضح ما إذا كان ناجماً عن اشتباكات بين طرفَي النزاع، «التيار الصدري» و«الإطار التنسيقي»، أو أن قوات الأمن هي التي أطلقت النار حين كانت تحاول إخراج المتظاهرين من المنطقة، إلّا أن المصادر الطبّية العراقية تحدّثت عن سقوط أكثر من عشرة قتلى و200 جريح.
وساعد في احتواء التوتّر قليلاً، تدخُّل القوى الأمنية بفاعلية لفرض حظر تجوال في كلّ أنحاء البلاد، في غياب الظروف الدولية المؤاتية للاقتتال، ولا سيما أن واشنطن ليست بحاجة إلى إشعال بؤرة توتّر جديدة في بلد ينتج أربعة ملايين برميل يومياً من النفط، ما سيؤدي إلى مزيد من الارتفاع في أسعار النفط، وخاصة أن «الصدريين» أغلقوا ميناء أمّ قصر في البصرة الذي يُصدَّر معظم النفط العراقي منه. ومن هنا، يُفهم قيام الولايات المتحدة بالبعث برسائل طمأنة من خلال الإعلان أنها لا ترى موجباً لإخلاء سفارتها في «المنطقة الخضراء». في المقابل، يُعتبر من البديهي أن لا مصلحة لإيران في التوتّر، باعتبار أنها ستكون أوّل المتضرّرين، وهي سارعت إلى إغلاق حدودها ووقف حركة الطيران من طهران إلى بغداد، على رغم استمرار حركة الطيران في مطار بغداد. وفي مؤشّر إضافي إلى رغبة الأطراف الأخرى في التهدئة، أصدر «الإطار التنسيقي» بياناً دعا فيه الصدر إلى الحوار، مطالباً الأجهزة الأمنية بحماية المؤسّسات الحكومية. وكان خطر الصدام بين «الصدريين» وأنصار الإطار ماثلاً، حين وصل الأوّلون إلى الجسر المعلّق من جهة «المنطقة الخضراء»، وكان الأخيرون على طرفه الثاني.
ولم ينتظر الصدر دقيقة واحدة بعد انتهاء مهلة الـ 72 ساعة التي كان قد منحها للقوى السياسية للردّ على مبادرته القاضية بخروج كلّ القوى السياسية من الحُكم، بما فيها «التيار الصدري»، وهي مبادرة اعتبر «الإطار التنسيقي» أنها مستحيلة التنفيذ، كما لو أن الأول طرحها لتُرفض، وليبدأ تنفيذ مرحلة أخرى من التحرّك في الشارع. لكن القرارات السابقة للصدر بالاعتزال، والتي عاد في النهاية عنها، تشير إلى أن لا اعتزال حقيقياً للسياسة، حيث سيظلّ الرجل يؤثّر في مجريات الأحداث، ولو بشكل غير معلَن، وسيظلّ كذلك يتحمّل مسؤولية عما يقوم به أنصاره. وكان الصدر قد أعلن قراره في تغريدة على «تويتر»، ردّ فيها على المرجع آية الله كاظم الحائري، الذي سبقه بإصدار بيان اعتزل فيه المرجعية بسبب المرض والتقدّم في العمر، وأيضاً بسبب الأوضاع السياسية التي وصل إليها العراق، طالباً من مقلّديه اتّباع مرشد الجمهورية الإسلامية، آية الله علي الخامنئي. كما هاجم مقتدى الصدر من دون أن يسمّيه، داعياً أبناء الشهيدَين الصدرَين الى أن يعرفوا أن «حبّ الشهيدَين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتّباع الحقيقيّ لأهدافهما التي ضحّيا بنفسَيهما من أجلها، ولا يكفي مجرّد الادّعاء أو الانتساب». وقرّر الحائري إسقاط جميع الوكالات والاُذونات الصادرة من قِبله أو من قِبل مكاتبه. ومعروف أن مقتدى هو أحد وكلاء الحائري، وكثير من أتباع «التيار الصدري» من مقلّدي الأخير، بحسب وصية آية الله السيد محمد صادق الصدر، والد مقتدى.
وكتب الصدر أن «الكثيرين، بمن فيهم السيد الحائري، يظنّون أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم»، مضيفاً: «كلا، إن ذلك بفضل ربي أولاً، ومن فيوضات السيد الوالد»، مؤكداً أنه «على رغم تصوّري أن اعتزال المرجع لم يكن بمحض إرادته، وما صدر عنه من بيان كان كذلك أيضاً، إلّا أنني كنت قد قرّرت عدم التدخّل في الشؤون السياسية. فإنني الآن أعلن الاعتزال النهائي وغلْق كل المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام، والكلّ في حلّ مني، فإن متُّ أو قتلت أسألكم الفاتحة والدعاء». وبعد التغريدة، صدر بيان عن المكتب الخاص للصدر يعلن فيه أنه يُمنع منعاً باتّاً التدخّل باسم «التيار الصدري» في جميع الأمور السياسية والحكومية وفي جميع المعاملات المتداولة في مفاصل الدولة وجميع المؤسسات والعناوين الاجتماعية الأخرى، كما يُمنع رفع الشعارات والأعلام والهتافات السياسية وغيرها باسم التيار، وأيضاً تداول أو استعمال أيّ وسيلة إعلامية، بما فيها منصّات التواصل الاجتماعي باسم التيار. ثمّ أعلن «الوزير القائد» التابع للصدر، تعليق نشاطه، ونشر رسالة لأحد أنصار التيّار يقول فيها «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي… سنبقى صامدين»، فردّ عليه «الوزير»: «كفّيتوا ووفّيتوا… عودوا إلى منازلكم سالمين». لكن هذه الدعوة بدت من باب التنصّل من المسؤولية فحسب.
ويلفت المحلل السياسي، فاضل الطائي، المقرّب من «التيار الصدري»، لـ«الأخبار»، إلى أنه «بعد عجز الصدر عن تشكيل حكومة غالبية وطنية لتحقيق إصلاحات في العملية السياسية، قام بسحب أعضاء كتلته النيابية من البرلمان لينتقل إلى الشارع لتحقيق الإصلاحات التي يطالب بها الشعب العراقي، أي أن السيد الصدر انتقل من الشرعية الدستورية، إلى الشرعية الثورية من خلال التظاهرات والاعتصامات الشعبية التي كفلها الدستور، باعتبار أن الشعب مصدر السلطات»، مضيفاً إنه «بحسب تغريدات الصدر وبياناته، فقد بدأ بالتصعيد في مطالبه من حلّ البرلمان إلى الدعوة إلى عدم اشتراك جميع الأحزاب في الانتخابات ومن ضمنها التيار الصدري»، متابعاً أنه كان واضحاً أنه «إذا تمّ رفض هذه المبادرة، فسيرفع الصدر يده عن قيادة التظاهرات ويقفل بابه أمام أيّ حوار، ويبقى الأمر متروكاً للشعب… وليس لأحد مستقبلاً لومه». ويشير الطائي إلى أن «الشارع العراقي في حالة غليان، كون الأحزاب الحاكمة لا ترغب في الإصلاحات ولا تتنازل لحقوق الشعب العراقي، وهي ساعات حرجة للنظام، فإمّا أن يزيح الطبقة الحاكمة بثورة شعبية كبرى، أو فوضى عارمة تؤدّي إلى الاقتتال».
في المقابل، يبدي القيادي في «تحالف الفتح»، عائد الهلالي، في حديث إلى «الأخبار»، اعتقاده بأن «مبادرة الصدر كانت مستحيلة التنفيذ أو القبول بها من قِبل الأطراف الأخرى السياسية وجمهورها. إن عملية صناعة أحزاب بديلة جديدة، وقيادات جديدة، مع مشروع جديد، تحتاج إلى فترة زمنية لا تقلّ عن عشر سنوات».
ويؤكد أن «جميع الكتل السياسية من المكوّنات الثلاثة مع جمهور المدنيين والمستقلّين، مجمعون على أن يكون التسلسل في التعاطي مع حالة الانسداد السياسي بالطرق الآتية:
– تشكيل حكومة انتقالية تؤسّس لعملية سياسية جديدة وإجراء انتخابات مبكرة.
– إجراء تعديلات دستورية أوصت بها المحكمة الاتحادية، وبالأخص تعديل قانون الانتخابات وتغيير المفوضية وما إلى ذلك.
– وبعدها يُحلّ البرلمان وتُجرى انتخابات مبكرة جديدة».
ويقول الهلالي إن «هناك عدداً من الشخصيات القيادية، وكذلك ما لا يقل عن 170 نائباً يريدون الذهاب إلى عقد جلسة وإكمال باقي الاستحقاقات الدستورية حتى وإن اقتضى الأمر عقد هذه الجلسة خارج بغداد. فلا يهمّ أين ستكون الجلسة، المهم هو كيفية الحفاظ على الدم العراقي وعدم السماح للوضع بالانزلاق»، مضيفاً إن «البعض يقول لنتريّث قليلاً ونعطِ للحوار فسحة وخصوصاً بعد الجولة التي قام بها السيد هادي العامري في كردستان، وكذلك لننتظر عودة السيد عمار الحكيم من جولته الخليجية، ومن المحتمل أن يكون هناك لقاء ربّما يجمع الصدر مع العامري. ننتظر كذلك ما سوف تسفر عنه جهود السيد مسعود بارزاني مع السيد نيجرفان بارزاني، إذ سيقوم الأخير بجولة داخلية ويعقد لقاءات مع جميع القيادات السياسية العراقية حاملاً معه مبادرة من الأول».