كتبت “الاخبار”:
لطالما شكّل التدخين، بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، “فشة الخلق” الوحيدة في ظلّ الأزمات التي يواجهونها، إلا أنه لم يعد كذلك في الفترة الأخيرة، بل بات يشكل أزمة جديدة تضاف إلى سلسلة مشاكلهم العديدة. السجائر بمختلف أنواعها، ارتفعت أسعارها بشكل كبير. “حتى أنت يا سيجارة” هكذا يلوم المدخّنون “رفيقة السوء” بعد غلاء ثمنها، ليجدوا أنفسهم مضطرين إلى اتّباع عادات تدخين مختلفة من أجل التوفير، كتدخين أصناف أرخص ثمناً، أو اللجوء إلى التبغ العربي أو ما يُعرف بـ”دخان اللفّ”.
الدخان الوطنيّ
تدريجياً، ارتفعت أسعار علب السجائر، متأثّرة بتقلبات الدولار. في بداية الأزمة، حاول المدخّنون التشبّث بالأصناف التي اعتادوا تدخينها سنواتٍ طويلة، وهي غالباً أصناف أجنبية مثل “المارلبورو والجيتان والدافيدوف وغيرها”، لكنّ اشتداد وطأة الأزمة وتجاوز سعر العلبة الواحدة من الأصناف المذكورة عشرات آلاف الليرات، دفعا عدداً كبيراً من المدخّنين إلى اللجوء نحو الدخان الوطني، وتحديداً إلى “علبة السيدرز”. الأخيرة كانت شبه “منبوذة”، وكثيرون كانوا يرفضون تدخينها، ومن كان يشتريها، فغالباً بسبب سعرها الزهيد. أما اليوم، فقد اختلف المشهد كلياً، وباتت هي “نجمة الدخان اللبناني”، مع إقبال المستهلكين عليها وهجرهم الدخان الأجنبي، ما دفع مؤسسة إدارة حصر التبغ والتنباك إلى تعزيز إنتاجها. لذلك ثمة من يقول ساخراً: “حالياً، اللبنانيون يختلفون في كل شيء ويتفقون فقط على تدخين السيدرز”. سعرها المقبول مقارنة مع غيرها، لا يخفي حقيقة أنها أيضاً عرفت ارتفاعاً واضحاً في سعرها. العلبة التي كان يبلغ ثمنها 750 ليرة عام 2019، يقارب سعرها حالياً الـ15000 ليرة، وهذا ما تعزوه إدارة “الريجي” إلى كون 95% من التبغ المستخدم في إنتاجها مستورداً من الخارج.
التبغ العربيّ
ارتفاع أسعار السجائر، بنوعَيها المحلي والأجنبي، كان عاملاً أساسياً وراء اتجاه العديد من المدخّنين نحو التبغ العربي، الذي كان منسياً إلى درجة كبيرة قبل الأزمة.
يذكر وائل وهو من قدامى مدخّني الدخان العربي، كيف كانت الأنظار تشخص صوبه، حين كان يلفّ سيجارته في الأماكن العامة، وكيف كان الناس يبتعدون عنه، لظنّهم أنه يدخن الحشيشة أو غيرها من الأمور الممنوعة، بسبب جهلهم بدخان اللفّ. حالياً، أصبح الوضع بالنسبة إلى وائل أكثر راحة، خصوصاً أن عادة الدخان العربي باتت منتشرة في أوساط المجتمع اللبناني، الذي لم يعد يتقبّلها فقط، بل يدخنها أيضاً بوتيرة متصاعدة.
على عكس وائل، وفد حسين حديثاً إلى “عالم اللفّ”، بعدما لم يعد قادراً على تحمّل تكاليف السجائر العادية، خصوصاً أنه يدخن 3 علب يومياً، حينها حاول تجربة سجائر مهرّبة ورخيصة الثمن، لكنه لم يستسغها، ولا سيما أن تغيير المدخّنين لسجائرهم المعتادة ليس بالأمر السهل. جرّب حسين الدخان العربي، فاستحسنه، لتبدأ عنده رحلته معه. يعترف بأنه واجه في المرحلة الأولى صعوبة في عملية لفّ ورقة السيجارة ووضع الفلتر، لكنه خلال فترة قصيرة اعتاد على الأمر، إذ لا تأخذ عملية اللفّ أكثر من نصف دقيقة من وقته. يقدّر حسين أنه يوفّر 700 ألف شهرياً نتيجة تحوّله إلى الدخان العربي، يقول: “مرتي وولادي أحق فيهن”، لافتاً إلى أنه لو عادت أسعار السجائر إلى سابق عهدها، فلن يترك دخان اللف بعدما اعتاد عليه.
مصائب قوم… فوائد
ينطبق هذا القول حرفياً، على أحمد الزاهرة، صاحب معمل للتبغ العربي في بلدة إيزال الضنية، إذ شهدت أعماله ازدهاراً ومبيعاته ارتفاعاً جراء تزايد الإقبال على الدخان العربي. يذكر الزاهرة أن مبيعات معمله سابقاً كانت بحدود 100 كلغ يومياً، لترتفع حالياً إلى نحو 750 كلغ يومياً. ويشير إلى تغيّرات عدة طرأت على مهنة بيع الدخان العربي: سابقاً كان أغلب الزبائن من المغتربين ولا سيما من أستراليا، حيث السجائر هناك باهظة الثمن، أما اليوم فأغلبهم من المواطنين المحليين الهاربين من الغلاء. أما بالنسبة إلى المحصول، فقد كان المزارعون والتجار يعمدون قديماً إلى تسليم أغلبه للريجي والاحتفاظ بالقليل منه لبيعه كدخان عربي، وذلك بعد فرمه بواسطة فرّامات مخصّصة لهذا الغرض. أما الآن، فيحتفظ المزارعون بأغلب محصول الدخان من أجل بيعه كدخان عربي، ويتم تسليم كمية قليلة منه إلى الريجي. ومن يُسلّم، يفعل ذلك خوفاً من إلغاء رخصته بحسب الزاهرة، الذي يشكو من كثرة التبغ العربي المهرّب والمغشوش الموجود في السوق.
منذ 38 عاماً، يعمل علي بلحص ابن بلدة جبال البطم الجنوبية في مهنة زرع الدخان العربي وبيعه. ورث المصلحة من والده واستمرّ فيها. في الفترة الأخيرة، عرفت مصلحته تحسّناً كبيراً، لدرجة أن محصوله الكبير من الدخان بالكاد يكفي لتلبية طلبات زبائنه المتزايدة. في سياق حديثه عن الدخان العربي، يكرّر بلحص جملة “أكيد أوفر وأنظف، إذ لا تدخل فيه المواد الكيماوية، فضلاً عن أن نسبة النيكوتين فيه منخفضة مقارنة مع السجائر العادية”. يعدّد بلحص أنواع التبغ العربي، كالتبغ الأشقر والأسمر والأحمر، ويشرح أن الاختلاف يكمن في المذاق، فبعض الأنواع ثقيل وبعضها الآخر خفيف. وبالنسبة إلى الأسعار، فإنها تتفاوت بحسب النوع والمنطقة، ويبلغ سعر النوعية الجيدة بحسب بلحص 150 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد،بعدما لم يكن ثمنها يتجاوز الـ40 ألف ليرة، والكيلو الواحد يكفي لمدة شهرين إذا ما كان الاستهلاك يجري بوتيرة عادية، أي ما يوازي تدخين علبة واحدة يومياً.
إذاً، لم تدفع الأزمة الاقتصادية اللبنانيين إلى الإقلاع عن التدخين، رغم أن غلاء ثمن السجائر شكّل فرصة ذهبية كي يتوقف المدخّنون عن “عادتهم السيئة”. بدلاً من ذلك، لجؤوا إلى التكيّف مع أزمة الدخان المستجدّة، من خلال اتّباع عادات تدخين غير مكلفة نوعاً ما، فكأنّ “جيوبهم” أهمّ من صحتهم. سلوك يؤكد أن اللبنانيين يحاولون دائماً التكيّف مع مشكلاتهم بدلاً من السعي لحلّها، ما يزيد هذه المشكلات تعقيداً وتأزيماً.