كتبت “الاخبار”:
آخر الدواء استرداد الحقّ بالقوة، وهو أمر يكفله القانون اللبناني في المادة 429 من قانون العقوبات التي تشير إلى «استيفاء الحق بالذات». هذا الأمر تكرّر بين المودعين والمصارف بعدما سطت هذه الأخيرة على الودائع. وقد نفذت عملية السطو هذه، بالتواطؤ مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومع قوى السلطة المتعاقبة. التواطؤ كان فعلاً تاريخياً في ما بينهم، إنما السنوات الثلاث الأخيرة أكثر دلالة عليه. إذ تمكنت هذه الجهات من إسقاط خطط التعافي، وكل القوانين التي احتاج إليها لبنان لإدارة الأزمة، فضلاً عن التغطية على قرارات الحاكم التي خلقت تعددية في أسعار الصرف، وتضخماً غير مسبوق في الأسعار، والهيركات المقنّع… إنه مسار تتمّ مواجهته بحلول فردية يقوم بها أبطال، بينما تنشغل السلطة في البحث عن طرق لإبعاد كأس إعادة الهيكلة عن مصرف لبنان والمصارف.
«المؤلم حقاً هو ردّ فعل الناس… أن تحتفظ بِمالك في البنك أكثر أماناً من الاحتفاظ به في المنزل». هذه العبارة أطلقها رئيس جمعية المصارف سليم صفير، بعد نحو شهر على اندلاع انتفاضة 17 تشرين وما تلاها من احتجاجات للمودعين أمام المصارف نتيجة القيود التي بدأت تُفرض على السحوبات النقدية. كذبة صفير ومن خلفه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وسائر أركان المنظومة، وكل من تحدّث عن استقرار الليرة وقدسية الودائع، لم تدم طويلاً. فكان أحد نتاجات السقوط الحرّ، لجوء المودعين إلى العنف احتجاجاً على القيود غير الشرعية التي تمارسها المصارف على حساباتهم وتمنعهم من تحريكها لتلبية حاجات استشفاء أو دراسة أو حتى غذاء. هكذا، بدا أمس، أن اقتحام باسم الشيخ حسين، مصرف فدرال بنك، بحثاً عن وديعته، أكثر من مجرد «فشّة خلق» لآلاف المودعين المالكين لأموال محجوزة. يتخايل العشرات منهم مخططات كالتي نفذها باسم وغيره، تحفزها الرغبة في استعادة أموالهم المنهوبة من جيوب أصحاب المصارف بالقوة. وهذا قانون يعلو فوق كل القوانين… ولا سيما إذا كانت القوانين والقرارات الصادرة عن الأحزاب السياسية الحاكمة في السنوات الماضية تصبّ كلها لمصلحة الجلاد وتعمل في خدمته. وهذا ما يعيدنا إلى أصل المشكلة وإلى طريقة تعاطي الدولة اللبنانية، من مصرفها المركزي الى حكوماتها المتتالية الى نوابها، مع خسارة الناس لـ»جنى عمرهم» المودع في المصارف.
«نسرقكم لمصلحتكم»
خلافاً لما يُشاع، لم تبدأ عملية السطو على أموال المودعين غداة 17 تشرين الأول 2019، بل قبل ذلك بسنوات. هو أمر أشار إليه أخيراً تقرير صادر عن البنك الدولي بعنوان «بونزي مالية». ولم ينكشف الأمر إلا في فترة ما في منتصف عام 2019، عندما قرّرت المصارف التضييق على عمليات تحريك الحسابات، وإغراء الزبائن بتجميد أموالهم لفترات إضافية، أو بمنعهم من تحويلها إلى الخارج بحجج إدارية وتقنية… استعملت المصارف الكثير من القيود المقنّعة، إلى أن سقط الهيكل كلّه بعد 17 تشرين الأول 2019 وعبّر صفير عن ذلك بالإشارة إلى أنه «حاجز لحماية النظام».
بدايةً تحرّك سعر الصرف بضع ليرات، ثم بشكل أكثر تسارعاً وأكبر في القيمة. ثم سرعان ما انكشف مخطط الاحتيال الذي حدّدت خسائره أو أمواله المنهوبة، بنحو 60 مليار دولار، وفق ما ورد في خطة الرئيس حسان دياب. حاول مصرف لبنان والمصارف طمس معالم الجريمة عبر خلق أسعار متعددة لسعر صرف الليرة تجاه الدولار، والمماطلة في تقديم الأرقام، وإنكار حصول الأزمة من أساسها. لكنهم في الوقت نفسه كانوا يستعملون هذه التعددية بواسطة إفلات سعر الصرف وتضخّم باقي الأسعار. يومها، برزت أمور لم نسمع بها سابقاً مثل تجارة الدولار المصرفي في مقابل الدولار الفريش… وأثناء انكباب حكومة حسان دياب على إعداد خطّة للتعافي تتضمن توزيعاً للخسائر بطريقة مختلفة، كشّر اللوبي الحكومي – النيابي – المصرفي، عن أنيابه لإسقاط الخطة تحت عنوان «حماية أموال المودعين». كذلك استغلّ الأمر لإطاحة حكومة دياب.
انطلاقاً من هذه اللحظة، وعلى وقع انهيار قيمة الليرة، بدأ مصرف لبنان يصدر تعاميم تكرّس المسار الذي أطلقه، أي التعددية في سعر الصرف وضخّ النقد، والتضخم في الأسعار. اشتدّ الخناق على أعناق المودعين وسائر المقيمين: السحوبات بالدولار ممنوعة، التحويلات إلى الطلاب مستحيلة، انهيار غير مسبوق ومتسارع في سعر الليرة، تجارة شيكات مصرفية بالدولار يقوم بها الجميع وضمنهم المصارف، فرض عمولات ورسوم مصرفية عشوائية وخارج المنطق. ومن أجل تبرير ذلك، بدأت المصارف تتهم مصرف لبنان بقيادة عملية القيود غير الشرعية مبررة ذلك بأنه الجهة التي تمدّها بالعملة، بينما مصرف لبنان ألقى باللائمة على الدولة… وهكذا دواليك. إنما في الواقع، هم متواطئون في ما بينهم لتغطية المسار الذي رسمه مصرف لبنان لإخفاء ما يسمى خسائر أو مالاً منهوباً. وهذه الخطة كانت تؤدي إلى نتيجة أساسية: المزيد من الاقتطاع (هيركات) على الودائع. يومها، تحدّث سلامة عن 5 سنوات لتصفير حساباته الدفترية على طريقة «عفا الله عمّا لم يُسجّل». سانده ودعمه وسهّل له، ولا يزال، حلفاء سياسيون منعوا المسّ به من منطلق الخدمات المتبادلة، ورعاة دوليون على رأسهم الولايات المتحدة.
الهيركات مستمر
السؤال الرئيسي هنا، كيف تعاملت الدولة اللبنانية مع هذا الانهيار؟ كان ثمّة منحيان لما جرى: عملياً، تركت الدولة قيادة «الحلّ» لمصرف لبنان والمصارف وجاءت بأحد حلفائهما، نجيب ميقاتي، إلى رئاسة الحكومة لتأمين ممرّ آمن وتعطيل كل ما لا يتناسب ومصالحهما. في المجلس النيابي، تكفل رئيس مجلس النواب نبيه بري بتطيير كل اقتراحات قوانين الكابيتال كونترول (فرض قيود على السحوبات والتحويلات المالية) على مدى ثلاث سنوات، حتى بات إقراره لزوم ما لا يلزم إذا كان الهدف حماية أموال المودعين والمساواة في ما بينهم. لا بل تم إعداد نسخة على قياس المصارف تضمن حمايتها من الدعاوى المقامة ضدها في الداخل والخارج. على هذا النسق، أعدّ ميقاتي خطة مالية لإعادة أموال المودعين من دون تحديد أي آلية، قابلها صندوق النقد بالموافقة، قبل أن يطيّرها ميقاتي مجدّداً بالتسويف والمماطلة. وعبر إضافة تعديلات عليها، عرضها شفهياً أمام لجنة المال والموازنة، إلا أنه لم يقدمها مكتوبة حتى الساعة، رغم مرور شهر ونصف شهر على وعده بإرسالها. في غضون ذلك، «الهيركات» على الودائع لم يتوقف، سعر الصرف يرتفع، التضخم في مستويات خيالية، المصارف تستفرد بفريستها، وخطة سلامة مستمرة برعاية الدولة من أعلى هرمها إلى أسفله.
آخر الدواء: «القوة»
إذاً، ما الخيارات المتاحة أمام المودع؟ أصحاب الودائع الكبيرة ومن يحظون بجنسيات أجنبية لجأوا الى القضاء الخارجي لاسترداد أموالهم: أحد كبار المودعين، فاتشيه مانيوكيان، تمكن من استرداد 4.6 ملايين دولار بواسطة القضاء البريطاني. بينما لجأ البعض الآخر الى القضاء المحلّي كوسيلة للحصول على أموالهم. نجح بعض القضاة في إجبار المصارف على ردّ الوديعة، فيما طُوّع قضاة آخرون وجرى تأديبهم عبر إعلان المصارف والموظفين الإضراب بالتزامن مع رفع سعر الدولار.
أما الأغلبية الساحقة من المودعين، فقد ظلت عاجزة عن الحصول على أي قرش من أموالها نتيجة البطش المصرفي والقيود الاستنسابية. عندها، بات خيار «استيفاء الحق بالذات» (المادة 429 من قانون العقوبات) هو الخيار الأخير أمام من حوّلتهم المصارف إلى متسوّلين على أبوابها للحصول على أموالهم الخاصة. كانت تجربة المواطن عبد الله الساعي بانتزاع وديعته من مصرف بنك بيروت والبلاد العربية في جب جنين مشجعة لغيره، ولا سيما أن القاضية أماني سلامة أخلت سبيله بكفالة مالية لا تتعدى المئتي ألف ليرة، ما يؤشر الى تفهم القاضية لما قام به. ولا بدّ بعدها، من أن تتكرر هذه التجربة في ظل تقاعس السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن تحصيل حقوق الناس. لن يكون الساعي ولا باسم الشيخ حسين آخر المستوفين لحقوقهم بأنفسهم. إذا كان القيّمون على القانون هم أنفسهم السارقون وحماتهم، فلا بدّ أن يكون آخر الدواء هو أخذ الحق بالقوة… أيّ قوة.