كتبت رحيل دندش في “الاخبار”:
بهدوء شديد، عاشت جورجيت في منزلها في الأشرفية. كانت الامرأة السبعينية تدفع من وديعتها المصرفية، مقدماً كل ستة أشهر، إيجار شقتها البالغ 1200 دولار شهرياً.
مع بداية الانهيار الاقتصادي، ووضع المصارف سقوفاً للسحب، لم تعد قادرة على دفع الإيجار ولا حتى ثمن أدويتها. فجأة، من دون مقدّمات، وجدت نفسها تخوض صراعاً غير مفهوم بالنسبة إليها مع المالك والمصرف معاً، وهي التي تمتلك وديعة مصرفية اعتقدت بأنها ستؤمّن لها شيخوخة هادئة ومرفّهة. حاولت أن تُفهم المالك أن البنك «يقطّر» لها في المصروف، وكانت في كل مرة تعرض عليه ورقة من دفتر شيكاتها فيرفض. أما البنك، فلم تستوعب أبداً كيف يحق له أن يحرمها من الوصول إلى وديعتها. دخلت في حال اكتئاب شديد إذ لم تتخيّل يوماً أنها ستكون قاصرة على تسديد التزاماتها. بعد اتصالات متكررة من محامي المالك للحصول على الإيجار الشهري من دون أن تردّ، تقرّر خلع باب الشقة حيث وُجدت جورجيت ميتة.
كان للانهيار الاقتصادي وقع كبير على مجمل اللبنانيين، ما أثّر في سلوكهم ونمط حياتهم واتزانهم النفسي، بعدما حوّل غالبيتهم فقراء يسعون وراء تأمين الغذاء والدواء وإيجار المنزل. الأثر الأشد وقع على المودعين الذين خسروا أموالهم وجنى أعمارهم واستفاقوا على تعاميم تسمح لهم بالحصول على فتات أموالهم بالقطارة. هناك من سلّم بالخسارة وهوّن من وقعها على قاعدة أن «المصيبة جماعية»، وهناك من يعيش حال إنكار ولا يريد التصديق أن جنى سنين من الاغتراب أو العمل ضاع. وما بين الحالتين هامش واسع من ردود الأفعال التي تحاول إيجاد توازن جديد مع واقع متدحرج.
شيرين خالد، طالبة إعلام وإخراج، كادت تضيع منها منحة للدراسة في إحدى جامعات نيويورك بسبب… 250 دولاراً، «كنت أقضي يومي رايحة جاية عالبنوك أجلس مع الموظفين ومع المدراء وأطالبهم بأموالي حتى قال لي أحدهم: طولي بالك في مرضى سرطان ما عم يطلعلن مصاري! رأيت كيف تحوّل الأموال باستنسابية أو عبر العلاقات المباشرة مع المصرفيين أو بالضغط كما حصل معي. عشت رعب أن تفوتني فرصة التعلم وتمكّنت من تحويل مبالغ بسيطة بعد شجارات وانهيارات. شعرت للحظة بأنهم يتحكمون بمصيرنا وأخذوا منا حتى حقنا في أن نحلم. صعدت الطائرة بلا مال رغم أن أموالي في البنك».
وفق المحامية في رابطة المودعين دينا أبو زور فإن «الأكثر تأثراً في فئة المودعين هم الأصغر سناً ممن ضاع مستقبل كانوا يحلمون به، وكبار السن الذين لم يستوعب كثر منهم ما حصل ولا الأسباب التي تمنعهم من سحب أموالهم»، لافتة إلى كثيرين من هؤلاء «يعيشون حالة إنكار. لا يعترفون بتعاميم المصرف ويستفسرون يومياً عن طرق وأساليب تخوّلهم استرداد أموالهم. في المقابل هناك مودعون يتصلون بالرابطة عند صدور أي تعميم أو حدث ليؤكدوا أن لا داعي لأي جهد لأن الأموال طارت».
حياة أحمد، الرقيب في الجيش اللبناني، استحالت جحيماً بعدما خسر تعويضه الذي وضعه في المصرف قبل شهرين من الأزمة بعدما قدّم تسريحه من الخدمة العسكرية إثر خدمة أكثر من 20 سنة في الجيش. كغيره، ارتأى أن يعيش من فوائد وديعته. بات أحمد اليوم «كائناً صامتاً يثور لأتفه سبب ويمارس العنف على أولاده ويرفض الخروج أو استشارة صديق أو طبيب»، تقول زوجته.
تؤكد أبو زور أن أصحاب تعويضات نهاية الخدمة، هم «الأشرس والأكثر تضرراً نفسياً إزاء الخسارة، لكنهم يحاذرون رفع الدعاوى خوفاً من إقفال حساباتهم. وتظهر ردود أفعالهم بالاكتئاب والتوتر الذي يتبدى عنفاً تجاه الذات والأسرة والمجتمع».
كل فرد تعاطى مع الانهيار بطريقة مختلفة تبعاً لصورته التي كوّنها عن نفسه وفق الأستاذ في علم الاجتماع زهير حطب. «فالإنسان ليحقق التوازن مع صورته القديمة بعد التعرض للانهيارات يعتمد في ذلك آليات صادقة أو كاذبة مع الذات والآخرين، وهذا ما يفسّر لجوء البعض إلى سلوكيات هروبية، كصرف المال من دون تفكير والمبالغة بالاهتمام المظهر ولو على حساب الإنفاق على المأكل مثلاً لإنكار الواقع المستجد. وعلى سبيل المثال، من يتقاضى أمواله باللولار صار يصرف من دون وعي كآلية دفاعية وتعويضية عن الخسارة وعدم تأجيل السعادة، أو كطريقة من التعامل بلامبالاة إزاء ما صارت إليه الحال، لأن كلو رايح وخربانة خربانة. هذا يظهر أكثر عند من صورته عن نفسه تشكّلت من خلال موقعه الوظيفي. ولذلك كثيرون من هذه الفئة، حفاظاً على المكتسبات الاجتماعية، إما أقدموا على الهجرة أو يتصرفون بإنكار ولا مبالاة ونزوع نحو الفردية الأنانية وأفكار عظمة أو يشعرون بحاجّة ملحة للانتقام، أو بفقدان الأهمية والأمل وتراودهم أفكار الانتحار».
وتشير المعالجة النفسية دانيا دندشلي إلى أن «اللبنانيين عموماً يعيشون حالاً من الضياع ولا يعرفون الوجهة التي يجب عليهم أن يسلكوها ليستوعبوا ما هو أكبر من قدرتهم على الاستيعاب، خصوصاً أن لا وجود لأفق واضح للخروج من هذا المأزق». هذا الضياع «يترجم لدى كثيرين إحباطاً واكتئاباً وقلقاً من المستقبل أو اضطرابات جسدية أساسها نفسي psycho somatization»، و«حتى من تكيّف مع الوضع المستجد خسر على مستوى نفسي حتى بلغ هذه المرحلة».
ما يفاقم الأمور عند كثيرين ويزيدها صعوبة، وفق دندشلي، أن «لا أيديولوجيا لدى كثير تساعدهم على الصمود. حتى الأب في المجتمع البطريركي الذي يشد من أزر الناس لم يعد موجوداً بالنسبة لكثيرين. هؤلاء هم إما اتجهوا نحو الانكفاء أو التهجم أكثر. أما من بقيت لديه صورة الأب الرمز القائد ومن ينتمي إلى حزب سياسي فإن حالته الشعورية أفضل ممن خرج من تحت هذه المظلة».