كتبت “الاخبار”:
في المشهد السياسي والاجتماعي غليان واضح. إلا أن الاعتبارات الخارجية تشير إلى أن قرار التفجير لا يزال معلقاً. لكن، إلى أي مدى يمكن ضبط الساحة مع تزايد الضغط الاجتماعي وعشية استحقاقات سياسية؟
يختصر مصدر أمني الوضع الداخلي بأن «كل العوامل التي يفترض أن تفجّر الوضع الداخلي موجودة. لكن القرار غير موجود، ولا مؤشرات على أن مثل هذا القرار قد يصدر من أي طرف داخلي أو خارجي». في المقابل، يتحدث سياسيون عن أن «الارتطام الكبير الذي كان يفترض أن يحصل منذ 17 تشرين وانفجار المرفأ، لم يحصل. فاللبنانيون لا يزالون يستكشفون حال الأزمة المعيشية ويـتأقلمون معها، لكنهم لم يصلوا بعد إلى الارتطام المفترض. أما الخشية من هذا الاصطدام فتتفاقم مؤشراتها مع اقتراب الاستحقاقات السياسية وتزايد الضغط الاقتصادي والحياتي».
مع مشهد طوابير الذل المتجدّدة أمام الأفران وعلى أعتاب أزمة محروقات جديدة، ومع تطور حدّة الأزمة الحياتية والإضرابات والتلويح بعدم دفع رواتب القطاع العام، يصبح الكلام عن احتمالات انفجار الوضع الداخلي على خلفية اجتماعية مطروحاً عند اشتداد كل أزمة. والأمنيون على حذرهم الدائم من احتمال استغلال الأزمات المتفاقمة التي لا توجد مبررات لخلقها في ظرف يعرف الجميع أنه غير مؤات لصبّ الزيت على النار.
إلا أن ما يشجع حتى الآن، أنه رغم ارتفاع نسبة السرقات والجرائم، ومع تسجيل معدلات فقر عالية في شكل غير مسبوق، وتدهور تصاعدي لأوضاع اللبنانيين، فإن ردود الفعل لا تزال أمنياً مضبوطة. وفي وقت تنهار أوضاع المؤسسات الأمنية ويتراجع حضور القوى الأمنية والعسكرية الرازحة تحت ثقل الرواتب المتدنية وخفض الحضور الأمني ميدانياً، كان من المتوقع أن تتفجر الساحة اللبنانية بفعل الاهتراء الأمني. كما كان يفترض أن تتحرك الساحات الشعبية رفضاً لكل مسار التدهور الحياتي.
لكن أياً من ذلك لم يحصل. بحسب الأمنيين، الوضع الأمني لا يزال ممسوكاً قياساً إلى كل ما سبق، لكن هذا لا يعني أن عناصر الانفجار غير موجودة، وأن مؤشراته ليست عالية. لكن مقارنة بالتجارب السابقة، فإن قرار عدم تفجير الوضع اللبناني الداخلي لا يزال سارياً، ولم يصدر بعد أي قرار يعاكسه. فخارجياً، ورغم تراجع الاهتمام بلبنان، لا يزال عامل الاستقرار يشكل بعضاً من الضمانات التي تتطلبها المفاوضات الإقليمية، ولا سيما بالنسبة إلى ساحات أكثر احتداماً من لبنان، ولا يزال يشكل حاجة للأطراف الإقليميين والدوليين.
أما داخلياً فإن التوترات السياسية الأخيرة، في أكثر من محطة لافتة، دلت إلى أن الجميع لا يزال ملتزماً التهدئة «الأمنية»، وأن السقوف لا تزال مضبوطة تحت شعار انتظار مرحلة حساسة تتعلق بالرئاسيات. علماً أن الانتخابات النيابية أتت لتسحب بعض عناصر المواجهة التي خفتت بعد صدور النتائج وتراجع كل طرف إلى معقله، وانتفى جزء أساسي من الجو المشحون الذي كان سارياً قبل منتصف أيار. إضافة إلى أن قرار القوى السياسية الداخلية لا يزال محكوماً باعتبارات خارجية. وحين يصدر قرار من هذا النوع، فإن عدة الانفجار حاضرة.
لكن كيف يمكن الاستعداد لمثل هذه الاحتمالات، سياسياً وأمنياً؟
اعتادت الساحة اللبنانية أن تحفل بكل أنواع العمل الاستخباراتي إقليمياً ودولياً، والقوى الأمنية التي تعرف ذلك جيداً وكانت تتلقى أحياناً عبر أجهزة حليفة تحذيرات من أعمال إرهابية، تدرك أن الأرضية صالحة إذا أرادت أي من هذه الأجهزة خلق بؤرة توتر في لبنان. وفي العادة، كان العمل الاستخباراتي المحلي على قدر من الجاهزية ومن المستوى الرفيع في مواكبة أي احتمالات من هذا النوع. لكن السنوات الأخيرة فاقمت عجزاً متمادياً لدى الأجهزة المختصة، رغم تسجيلها عمليات نوعية. وهذا الكلام ليس جديداً، لكنه تضاعف في الأشهر الأخيرة، بعدما تفاقمت الضائقة المالية وأصابت الأجهزة الأمنية. ورغم المساعدات التقنية المستمرة والهبات الخارجية والمخصصات العائدة لها، إلا أن ترهلاً أصاب بعضها وتراجع دورها الأمني، الأمر الذي من شأنه أن يترك علامات استفهام عن كيفية ترك هذه الأجهزة ضائعة بين التحديات الأمنية وبين الضائقة الاقتصادية، خصوصاً حين تكون أمام لبنان استحقاقات داهمة على مستويات مختلفة قد تنقلب بين لحظة وأخرى إلى مواجهات غير محسوبة حتى خارج الأطر الحزبية الضيقة. والعامل الأمني المعلوماتي في هذا الظرف أكثر من ضرورة، لكن يرافقه عامل اقتصادي وحياتي. إذ يثير حيرة سياسيين وأمنيين، على السواء، السر الكامن وراء التعامي عن دفع الأوضاع نحو الأزمات في وقت كانت السلطة السياسية تروج لحملات تنشيط الوضع الداخلي. في حين أن ما يحصل يشكل نموذجاً من شحن النفوس على أبواب استحقاقات سياسية مع قرب انتهاء العهد واحتمالات الفراغ الرئاسي، ومؤشرات التصعيد العسكري على خلفية التنقيب عن الغاز. هذا النفخ في النار اجتماعياً واقتصادياً أسبوعاً بعد آخر، يضاف إلى تفاقم المشكلات السياسية والانقسامات التي ظهرت أخيراً، يجعل من الصعب ضبطه في لحظة فوضى قد تفلت من يد الذين لا يزالون يمسكون بخطوط التهدئة. هذه ذروة المخاوف، في غياب أي حركة سياسية مضادة على مستوى المراجع الرسمية للجم التصعيد الاقتصادي والحياتي. إذ ليس في كل مرة يمكن أن تنجح التهدئة في وقف التعبئة الطائفية والحزبية والاجتماعية والحياتية، ولجم التدهور على غرار ما حصل في الطيونة.