كتبت “الجمهورية”:
ينتظر لبنان الرسمي والشعبي الجواب الاسرائيلي لتبيان إذا ما كان ملف ترسيم الحدود البحرية سيُنجز فعلاً، ويفتح الباب أمام البدء في إعادة التنقيب لاستخراج الغاز والنفط. فهل العودة إلى التنقيب ستكون سريعة في حال طُويت صفحة الترسيم قبل الخريف المقبل؟
لا يختلف إثنان على انّ الفرصة المتاحة اليوم للبدء في استخراج الغاز قد لا تتكرّر، بالنظر إلى الظروف الدولية المرتبطة بهذا الموضوع، والحاجة الاوروبية إلى مصادر جديدة للغاز، ومن ضمنها غاز حوض البحر المتوسط. ومع ذلك، لا يمكن الاكتفاء بالخيال الواسع للتفاؤل. إذ وصل الخيال بالبعض إلى الترويج إلى أنّ شركة «توتال» التي تربطها بلبنان معاهدة للتنقيب واستخراج النفط والغاز في المياه الاقليمية والمنطقة الاقتصادية، قد حجزت 150 غرفة في أحد الفنادق اللبنانية في شهر تشرين الثاني، لفريق عملها الذي سيكون متواجداً في لبنان لمباشرة عملية الحفر في البلوك 9. وسواء كان الترويج لمثل هذه الاخبار بريئاً، ام متعمّداً وتقف وراءه جهات لديها أهدافها لبثّ مثل هذه المعلومات، لا بدّ من سرد الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع، لكي لا تأخذنا الأوهام إلى ما وراء الواقعية والمنطق. وما هو معروف في هذا الملف، هو التالي:
اولاً- لا يحتاج فريق عمل «توتال» إلى هذا العدد من الغرف الفندقية. وفي عزّ الحفر في البلوك 4، لم يتجاوز عدد الغرف المحجوزة في الفنادق اللبنانية الـ 20.
ثانياً- بصرف النظر عمّا تمليه سياسات الدول التي تنتمي اليها شركات التنقيب عن النفط، فإنّ الأولوية لدى هذه الشركات تنحصر بتنفيذ أجنداتها الخاصة المرتبطة بمشاريعها وخططها المرسومة لسنوات إلى الامام. ولبنان ليس ضمن اولويات خطط «توتال» للسنوات المقبلة. وهذا الامر لا يعكس اي قرار سياسي او ما شابه كما قد يظن البعض، بدليل انّ قبرص ايضاً، حيث تملك «توتال» حق التنقيب في مجموعة واسعة من البلوكات الواعدة، تعاني من بطء عمل الشركة الفرنسية، التي لديها اولويات في مناطق أخرى. مع العلم انّ قبرص «الاوروبية» تمثل فرصة مميزة لاستخراج الغاز في هذه الحقبة بالذات.
ثالثاً- تجربة «توتال» في لبنان في عملية الحفر في البلوك 4 ليست مشجعة لكي تبادر الشركة إلى خرق مخططاتها وإعادتنا إلى مرتبة الاولويات الاستثنائية. هذا الامر لا علاقة له بنتائج الحفر التي لم تفض إلى اكتشاف وجود غاز بكميات تجارية، بل بالعذابات التي تكبّدتها الشركة من اجل انجاز المعاملات الروتينية في الوزارات والمؤسسات الرسمية.
على سبيل المثال، استغرق الحصول على دراسة الأثر البيئي فترة قياسية غير طبيعية، اضطرت معها «توتال» إلى إرسال مسؤولين كبار قدموا من الخارج وقابلوا رئيس الحكومة آنذاك حسان دياب، لعرض ما يجري معهم. وبعد ذلك، تمّ انجاز «الورقة» في غضون يومين، بما يعطي فكرة عن المماطلة التي كانت تُمارس في الدوائر الرسمية. هذا النموذج ينسحب على كل المعاملات الادارية التي قامت بها الشركة في لبنان، وكانت كلها بمثابة معاناة دائمة، اشتكى منها القيّمون على عملية الحفر في المياه اللبنانية.
ويبدو انّه بالإضافة إلى الروتين الاداري القائم في البلد، والذي يجعل من إنجاز اية معاملة مسألة صعبة ومعقّدة وتأخذ وقتاً كثيراً، فإنّ عدم دفع إكراميات (رشاوى) للموظفين، ساهمت في تعقيدات اضافية. إذ انّ «توتال» التي لديها تعاملات مع البورصات العالمية، تدرك انّ هذه الوضعية تعرّضها للمقاضاة في الولايات المتحدة الاميركية وفق قانون (FCPA) في حال ارتكبت جرم دفع رشاوى في لبنان، حيث الأحكام المالية قاسية. لذلك حرصت الشركة على إلزام الشركات المتعاقدة معها على توقيع تعهدات بالامتناع عن دفع الرشاوى، تحت طائلة المسؤولية. وهذا ما يفسّر ربما، انّ بعض المعاملات الرسمية لم تُنجز سوى مع شق النفس، وفي فترات طويلة وقياسية.
هذا الواقع، يحتاج إلى مراجعة من السلطات اللبنانية في حال وصلنا الى ترسيم الحدود البحرية، وبدأنا البحث الجدّي في العودة السريعة إلى التنقيب، لئلا تنطبّق علينا «حكاية» المرأة القروية التي شاخت ولم تتزوج، وعندما كان يُسأل أهل القرية عن الاسباب، كانوا يجيبون: انّها «وِحشة (بشعة) والدرب عِكشة والبيت بعيد». أي لا يوجد أي سبب يمكن ان يحفّز العرسان. فهل يتمتع البلد اليوم بأي حافز لدفع الشركات إلى التنقيب السريع عن الغاز في مياهنا؟