كتب مصطفى علوش في “الجمهورية”:
«أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد تظَلُّ عن الثأر تستفهِم أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد مِن الجُوعِ تَهضِمُ ما تَلهم تَمُصُّ دماً ثُم تبغي دماً وتبقى تُلِحُ وتستطعِم فقُلْ للمُقيمِ على ذُلّهِ هجيناً يُسخَّرُ أو يُلجَم تَقَحَّمْ ، لُعِنْتَ ، أزيزَ الرَّصاص وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم لإغما إلى حيث تبدو الحياة إليك مكرمة تغنم وإمَّا إلى جَدَثٍ لم يكُن يفضُلَه بيتُكَ المُظلِم» (محمد مهدي الجواهري)
قصيدة محمد مهدي الجواهري البليغة حفظتها منذ كنت طفلًا، وهو الشيوعي الذي لو لم نعرف خياره السياسي، لاعتقدنا أنّ قصيدته يمكن اعتماده لكل ما هو ثوري، سياسياً كان أم دينياً!
الإسكاتولوجيا هي رؤيا في كيفية نهاية العالم، وهي منطق تعتمده معظم العقائد، من دينية مختلفة، أو سياسية ثورية. كلها، بالإجمال، تعتبر أنّ واقع سقوط البشر في عالم لا قرار لهم فيه يُنتج مرارة مضنية من الواقع، وتطلعاً للتجاوز في مستقبل تزول فيه الشدّة وتعمّ السعادة وتنتهي فيه آلام تحكم الغامض في مصير الناس. هي ذاك الأمل الذي يصبر الفرد على تحمّل الصعاب ويوهمه بأنّ الصبر بعده الفرج.
ليست الاسكاتولوجيا محصورة بالعقائد الدينية، فالثورة ذات الطابع السياسي هي نوع من الاسكاتولوجيا، عندما يقتنع المؤمن بها بأنّ غد الثورة سيكون السعادة المطلقة التي من أجلها يهون الموت. مثلنا نحن اللبنانيين، يوم انطلقنا نهار الرابع عشر من آذار سنة 2005، وظن معظمنا بأنّ رحلة الصراع والآلام الوطنية انتهت، وأنّ الخامس عشر من آذار سيكون بداية الرحلة إلى جنة الوطن والعدالة والاستقرار. لكن توازن العالم دائماً مرهون بالجدلية، أي صراع الأضداد، فكلما رست الأمور على نهاية صراع، ستبرز أضداد جدّية لتخلق صراعًا جديدًا، وهكذا دواليك. لكن، حتى «ولهلم هيغل»، منظّر «الدياليكتيك»، أي صراع الأضداد، اعتبر بأنّ لهذا الصراع نهاية ما في المستقبل، وتهيأت له النهاية في مجتمع يتمتع بالحرية المطلقة، همّه الأساسي والوحيد هو تذوق الفن! اسكاتولوجيا الشيوعية مبنية أيضًا على صراع الأضداد، لكن الأضداد هي الطبقات الاقتصادية. وقد يكون «كارل ماركس» أكثر الناس دقّة في هذا الاستنتاج، بكون الصراع على الموارد هو الأكثر أهمية بين أنواع الصراعات. لكن تصور ماركس الاسكاتولوجي هو أنّ نهاية الصراع هي الجنة على الأرض، حيث «لكل ما يحتاجه، وكل حسب قدرته!»
في هذا المجال، سيطول الشرح ويتشعب، وأعتذر كالعادة عن دفعي بهذه الأفكار على عجالة. لكن خطورة الوضع الذي نحن فيه، وهو أمر كنت أخشاه حتى من يوم نشوة الانتصار في الرابع عشر من آذار، هو أنّ الصراع بين الأضداد مستمر. الأخطر هو كون الضدّ الآخر يرهن انتصاره بنهاية العالم، ونهاية العالم حسب نظريته مؤشره المزيد من الموت والدمار والعذاب. يعني أنّه كل ما زادت الشدائد، كلما اقترب يوم الفرج، عندما «ينتصر الحق على الباطل»، وتكون هناك فئة ناجية وحيدة هي «حزب الله».
من هنا، لم أستغرب فورة نائب «حزب الله» علي عمار، نهاية حرب تموز 2006، عنما وقف عند أطلال الضاحية، فوق العشرات من أجساد الشهداء ليقول «إنّ حزب الله هو ليس حزبًا بالمعنى الإنساني للكلمة، هو «حزب الله» بالمعنى الإلهي… عندما ينتهي التاريخ ينتهي «حزب الله…». ومن يدرس ويتابع بدقة الرؤيا العقائدية للحزب، فهي لا تختلف إلاّ بالتفاصيل عن رؤيا اسكاتولوجية لعقائد أخرى دينية وسياسية. الخلاصة، هي أنّ العذاب هو مقدّمة لنهاية العالم، وهي الفكرة ذاتها التي دفعت ثائرين ومنظّرين ومتنبئين آخرين عبر التاريخ، إلى التحضير للحياة الثانية الخالية من الصراع اليومي مع الأضداد. حتى أحمدي نجاد، الذي سمّاه «حزب الله» يوم استقباله بنشيد الإنشاد «نجاد يا رؤى الأجيال»، صرّح في جولته في المستعمرة اللبنانية يومها، بأنّ زمن المهدي آتٍ قريبًا، وأنّ المسيح سيأتي معه لوضع نهاية للمعركة «الأبوكاليبتية» التي ستضع حدًا للتاريخ. يومها فرح بعض الحلفاء المسيحيين من ذكر المسيح، طبعًا من دون تدقيق في التفاصيل، وحتى أنّ البعض شبّهوا سلطة البابا الكنسية بسلطة الولي الفقيه، وهذا ما هو إلّا دليل ساطع على أنّ المصالح الآنية تدفع البعض لتجاهل التفاصيل. يُقال إنّ نجاد، في أواخر حكمه، أصبح مقتنعًا بأنّ المهدي عاد من غيبته الكبرى، فكان يترك له مقعدًا شاغرًا في مجلس الوزراء. إعتراض الأتباع يومها هو افتراضه أنّ مجيء الأصيل يلغي الحاجة للوكيل. لن أستفيض في الأمر، فلكل رواياته وقناعاته، ولا دخل لنا إلّا من ناحية المعرفة بهذه القناعات. واجب المجتمع الديموقراطي هو احترام الخيارات الإيمانية طالما أنّها محصورة في الشعائر والدعوة القابلة للجدال، أي ألّا يفترض الداعي قداسة خياراته مسبقًا، ويعلم أنّ مجرد الدعوة سيضع تلك القناعات في دائرة التساؤل والمساءلة، ويعني تقبّل الرأي الآخر الذي قد يصل إلى حدّ اليقين عند الآخر. هنا تعود حلقة جديدة من الصراع، قد ينحصر في الحوار عند ذوي الألباب، او يتحول إلى هتافات عدائية تفترض قداسة عدائيتها وشعاراتها. وهذا يعني استثارة حمية آخرين لهم قناعاتهم وشعاراتهم ومقدّساتهم. هنا، فإنّ ما حصل في الطيونة، وقبلها مرات ومرات منذ تظاهرة الثامن من آذار، واحتلال الوسط التجاري، وغزوة السابع من أيار، والقمصان السود، وضرب المتظاهرين، واعتبار قتلة الحريري قديسين، كلها تصبّ في منطق قناعة فئة من اللبنانيين بأنّها الفئة الناجية الوحيدة، وهي المنصورة بالسلاح والدعم النظيف والمازوت، بأنّ ما النصر إلّا صبر ساعة واحدة.
حديث نصر الله الأخير موجّه إلى تلك الفئة، وهي دعوة إلى تحمّل ألم فقدان الأحبة في كل مكان، أملًا بالتعزية في نهاية العالم. خطورة الوضع هي في هذه النقطة بالذات، وهي أنّ الطرف الآخر في الصراع يستند إلى أنّ النصر حليفه مهما بلغت التضحيات. بالتالي، فإنّ المواجهة مع الضدّ لن تكون ودّية، ولن تصل إلى خواتيمها من دون حمّام دم. قد يصبر الحزب على بعض العوائق على الطريق، لكن لا يمكن التنبؤ بالمستقبل عندم يفور «حليب النور» في الفئة الناجية، أو في فئة أخرى مضادة، تظن نفسها أنّها هي الناجية. حمى الله أبناءنا من الفئات الناجية.