إرسال ثلاث طائرات مسيّرة غير مسلحة في اتجاه حقل كاريش، على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، ليس حدثاً آنياً ينتهي مع نهاية الحدث نفسه، ولا يشبه أياً من العمليات التي نفّذها حزب الله ضد العدو في السنوات القليلة الماضية، سواء في ما يتعلق بالدافع، أو بالظرف المرافق، أو بالغاية النهائية منه.
عبارة «وصلت الرسالة»، كما وردت في بيان حزب الله الذي تبنّى فيه إرسال الطائرات الثلاث، تختصر التحليلات. لكن ما هي الرسالة، وما هو موجبها، وإلى أين تريد أن تصل؟ أكثر من سؤال بات مطروحاً على طاولة البحث في واشنطن وتل أبيب، عن أصل الحدث وعن رسائله.
من الواضح للجميع الارتقاء في رسائل حزب الله، من الموقف السياسي المعلن والحازم إلى خطوات عملية ولو بالحدّ الأدنى.
كذلك يبدو أن ما فرض هذه الخطوة التصعيدية، المحدودة، هو مسار مفاوضات الترسيم برعاية «الوسيط» الأميركي، والذي باتت تل أبيب وواشنطن فيه رهينتين للحسابات الخاطئة ولأطماع زادت عن حدها. ويمكن التقدير أن مسار المفاوضات ونتائجها الآنية، أو تلك التي يدفع باتجاهها العدو و«الوسيط»، لم تعد تسمح لحزب الله بالامتناع عن إرسال رسائل تحذير، عملية هذه المرة، كي يكف الجانبان، الإسرائيلي والأميركي، عن الحسابات الخاطئة التي قد تقود – بل تقود – إلى خيارات متطرفة.
أما في النتائج المباشرة لتسيير المسيّرات الثلاث، فيمكن إيراد الآتي:
أولاً، على إسرائيل من الآن أن تخفض سقف اطمئنانها المبني على توقع أن حزب الله لن يجرؤ على تحويل موقفه السياسي إلى خطوات عملية.
ثانياً، رهان العدو و«الوسيط» على أن الأزمة المالية والاقتصادية عامل كابح وضاغط على حزب الله، بات متضعضعاً، إن لم يكن قد تبدّد.
ثالثاً، بيّن تسيير المسيرات عقم رسائل التهديد التي أطلقها قادة العدو أخيراً ضد حزب الله ولبنان، وتحديداً عن وزير الأمن بني غانتس ورئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، وهي تهديدات لم تؤثر في قرار حزب الله، بل حفّزته أكثر للمبادرة.
رابعاً، تبديد نظرية استغلال أزمات لبنان ودفعه لـ«قبول أي شيء» يعرض عليه. وهي نظرية «الوسيط» الأميركي التي أعلنها جهاراً، ويبدو أنه عمد بمعية العدو إلى دفعها على طاولة المفاوضات، أو «طاولة الفرض» كما تريدها إسرائيل.
وأياً يكن الأمر، فإن مبادرة حزب الله من شأنها تعزيز الموقف الرسمي اللبناني المفاوض، أي موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، علماً أن معظم البقية يتمايلون للانزياح لإرادة الأميركي. وفي محصلة النقاط المثارة هنا، سيكون العدو معنياً بأن يبحث جيداً في رسالة حزب الله: هناك سقوف لا يمكن القبول بها. فهل وصلت الرسالة؟ وكيف سيكون الرد عليها؟
رد فعل العدو
ردود الفعل لدى المسؤولين الإسرائيليين، كما لدى الخبراء، تسمح بتلخيص الموقف الإسرائيلي على الشكل الآتي:
على المستوى الرسمي جاء موقف وزير الأمن مطابقاً لما عاد وقاله رئيس الحكومة الجديد يائير لابيد الذي لم يغيّر كثيراً من العبارات. فقد حذر الجانبان من إرباك المسار التفاوضي. واعتبر غانتس أن إرسال المسيّرات «يقوّض المفاوضات والاتفاق الذي يتبلور»، ما يؤكد حقيقة التوجه لفرض الإرادة وإعطاء لبنان فتات الثروة الغازية، وهو التفسير أكثر معقولية من تفسير آخر قيل إنه يتعلق بخشية إسرائيل على مسار المفاوضات لذاتها. والمعنى استطراداً: خطوة المسيّرات هي بدء رد مقابل على خطة العدو و«الوسيط» لفرض حل بعيداً من مصلحة لبنان.
بات العدو، كما يفهم من المواقف الرسمية أو تلك التي وردت على لسان الخبراء والمراسلين والمصادر، أمام خيارات عملانية متعددة، وهي كلها تحت سقف الرد المباشر في لبنان نتيجة الخشية من التداعيات، وكما يرد في التعبيرات العبرية: «إسرائيل تدرك أنه في مقابل حزب الله لا يمكن للجيش الإسرائيلي الرد بشكل واضح وعلني لأن المسألة معقدة».
ويمكن اختصار مروحة الرد غير المعقدة بثلاثة خيارات:
أولاً، اللارد لأنه لم يحدث أي ضرر. لكن اللارد سيؤدي إلى تشجيع محاولات مماثلة من حزب الله في المستقبل.
ثانياً، الرد. على البنية التحتية لحزب الله في سوريا، وهو ما سيظهر أننا غير معنيين (خائفون) من المهاجمة في لبنان.
الرد: بـ«حرب الوعي» سيبرانياً، لكن هذا الرد أيضاً سينظر إليه على أنه تعبير عن موقف إسرائيل ضعيف.
في المواقف غير الرسمية، تجاذب المقاربة اتجاهان: تقارير مدفوعة من ماكينة الجيش عملت على «تمجيد» قدرة الاعتراض، مقابل تقارير تساءلت عن الإنجاز. وفقاً للاتجاه الأول، أظهرت إسرائيل قدرتها «الفائقة» على اعتراض المسيّرات. وفقاً للاتجاه الثاني، انتقادات واضحة للمقاربة الأولى والتضخيم فيها إذ إنهم «في الجيش الإسرائيلي يدركون جيداً أنهم لم يحبطوا اليوم أي عملية، لأنه لم تكن هناك محاولة لتنفيذ عملية» (القناة 12 العبرية)، ولأن «حزب الله قال عبر المسيّرات إن في إمكانه إرسال مسيرات غير مفخخة، ولكن في إمكانه أيضاً إرسال مسيرات مفخخة تنفجر في سفينة الاستخراج عندما يبدأ العمل فيها، ولدى حزب الله قدرات أكبر بكثير من تلك التي بدت بالأمس، والتي هدفت إلى إرسال رسالة وحسب، من دون التسبب بأضرار» (يديعوت أحرونوت).
هل يقدم الإسرائيلي، بإذن من الأميركي، على خطوات سلبية، سواء كانت سياسية أو عملياتية؟ هل يندفع الطرفان (أميركا وإسرائيل) إلى وقف العملية التفاوضية، علماً أن موقفاً كهذا من شأنه دفع حزب الله للارتقاء أكثر عملياتياً، أم سيقدمان على تعديلات نسبية في المقاربة التفاوضية؟ الأسئلة مفتوحة، وكذلك الأجوبة.
في الموازاة، تنتظر اللبنانيين حملة بدأت بالفعل فور الإعلان عن المسيّرات، تقودها جماعة أميركا في لبنان، مبنية على فذلكة ممجوجة ضد المقاومة: حزب الله يحرم اللبنانيين من ثروتهم عبر استثارة الإسرائيلي ومنع المفاوضات. وهي محاولة قلب حقائق وتشويه تكرّر نفسها ضد أي إنجاز أو مقدمة إنجاز يحققه حزب الله في مواجهة اعتداءات العدو وحماية الثروات اللبنانية من أطماعه. وبدلاً من أن تكون خطوة المسيّرات حدثاً يعزز الموقف اللبناني، يتحول لدى هؤلاء إلى النقيض تماماً. علماً أنه الدور الطبيعي والتقليدي الموكل أميركياً لهؤلاء.
تبقى الإشارة إلى أن إسرائيل تدعو مقابل التهديد القولي، والآن العملي، إلى ضرورة التمسك بالديبلوماسية، وتصف خطوة المسيرات بالتقويضية للعملية التفاوضية والحلول التسووية. فلا تهديدات إسرائيلية ولا «فشخرات»، وهو الأمر اللافت بقوة.
يعود ذلك إلى جملة عوامل تدفع تل أبيب إلى الانكفاء التهديدي. فهي، إضافة إلى أنها لا تريد في الأساس مواجهة مسلحة واسعة ضد حزب الله، أو محدودة من شأنها أن تتحول إلى واسعة، معنية أكثر في مرحلة ما بعد الغاز والنفط وانتشار المنشآت في عرض البحر، بأن لا تتسبب بأي ضرر للبنية التحتية، فوق الماء وتحتها، لغازها ونفطها، بما يشمل الاستخراج والنقل والتخزين في البحر والبر، وهي نقطة ضعف إسرائيلية إضافية يبدو من الصعب الدفاع عنها في زمن الحروب، وربما أيضاً لدى العمليات المركزة المضادة من الخارج.
أيضاً، إسرائيل معنية بأن لا تتضرر بيئة الأمان لمنشآت الطاقة وبنيتها التحتية، وأن لا تكون محلاً للتهديد والسجال حوله، وهو سجال سيتسبب بأضرار غير محصورة، من بينها أن الشركات صاحبة الامتياز ستعاني من أكلاف كبيرة جداً لتأمين المنشآت، وهي أكلاف من شأنها إبعاد الاستثمار وهروبه أو جعل شروطه صعبة على إسرائيل. ناهيك عن أن ضعف عامل الثقة الذي يتغذّى حتى من الإشاعات، يثقل على إسرائيل وعلى الشركات، التي ستواجه ضغط شركات التأمين العالمية وصولاً إلى حد وقف التأمين نفسه، ما يعني، عملياً، وقف عمل المنشآت.