كتبت “الجمهورية”:
الأجواء المتضاربة الصادرة عن اسرائيل حول الترسيم البحري ليست بريئة. ثمة اهداف غير واضحة تخبئها اسرائيل، وعلى ما يبدو، فلقد نجحت بالتلاعب بالموقف اللبناني، مستغلة الانقسامات السياسية الداخلية الحادة الموجودة.
الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين يعمل على إثارة نقاط حساسة جديدة، كمثل، ماذا سنفعل غداً إذا تبين أنّ خزان حقل قانا يمتد إلى داخل المنطقة التي تعتبرها اسرائيل بأنّها تابعة لها؟
في الظاهر يبدو السؤال منطقياً، لكن في المضمون هنالك ابواب عدة ملغومة ستؤدي في أفضل الحالات إلى تسعير الانقسام اللبناني الداخلي، عبر إعادة فتح ملف محاذرة التطبيع مع اسرائيل. لكن ثمة ما هو أبعد وأخبث من هذا كله.
الانطباع المنطقي يشير بداية إلى انّ اسرائيل غير جاهزة في المرحلة الحالية للذهاب إلى حسم ملفات حساسة مثل هذا الملف، قبل الانتهاء من الانتخابات الخامسة في غضون ثلاث سنوات. ومن ثم، فإنّ اسرائيل وبخلاف لبنان بطبيعة الحال، تستمر في سعيها لتحقيق أهدافها الحيوية، حتى ولو كانت في مرحلة الحملات الانتخابية.
والمقصود هنا انّ اسرائيل تريد استثمار مرحلة المراوحة هذه لتحقيق مكاسب على «حزب الله». ذلك انّ النافذة الدولية الوحيدة المفتوحة على «حزب الله» هي النافذة الفرنسية، حيث تتواصل باريس مباشرة معه من خلال سفارتها في بيروت.
ووسط أزمة الغاز التي تعاني منها اوروبا، والتي تضعها امام فصل شتاء قاسٍ، جرى استثمار مواقف الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله اعلامياً، خصوصاً لناحية معادلة «كاريش» مقابل قانا والّا الحرب. وهو ما يرفع من مستوى الضغوط الاوروبية على فرنسا، لدفعها إلى قطع تواصلها مع «حزب الله» بسبب الإمعان في تعميق الازمة التي تمرّ فيها اوروبا.
هنالك من يتساءل عمّا إذا كان «حزب الله» قد وقع في الفخ؟ لكن في الواقع فإنّ تسابق اطراف السلطة على استغلال ملف الغاز لتسجيل نقاط سياسية داخلية لمصلحة كل منها، جعل لبنان، كما في عدد من المحطات السابقة، ساذجاً امام المكر الاسرائيلي.
ولكن هنالك ما يستوجب مزيداً من الحذر. فخلال الاسابيع القليلة الماضية نفّذت اسرائيل حملة عسكرية مباغتة طاولت تنظيم «الجهاد الاسلامي»، وهو الفصيل الفلسطيني المحسوب مباشرة على ايران، ودامت ثلاثة ايام فقط، حيث طاولت قياديين وكوادر، خصوصاً في الضفة الغربية، ما يعني انّه كان قد جرى التخطيط جيداً وبنحو مسبق لهذه الحملة، وتمّ انتقاء التوقيت المناسب. ولا تزال التقييمات دائرة لاكتشاف الأهداف الحقيقية التي توختها اسرائيل من عمليتها.
هنالك هدف يتعلق باستدارة تركيا الاقليمية واختبار نياتها من خلال الموقف المحايد لحركة «حماس». وقيل ايضاً انّ اسرائيل وخلال مرحلة التمهيد لتفاهمها مع تركيا، والذي يرتكز في الأساس على خط الغاز الجديد من مصر إلى اسرائيل إلى تركيا، في مرحلة المفاوضات هذه، طلبت تل ابيب من انقرة العمل على إضعاف الجناح الموالي لإيران داخل حركة «حماس» إلى الحدّ الأدنى.
اذاً، اسرائيل مطمئنة إلى حدِ بعيد من مخاطر الجبهة الداخلية مستقبلاً. فهي وجّهت ضربة قاسية لحركة «الجهاد الاسلامي» وضمنت «مفاتيح» حركة «حماس». وبالتالي، هنالك اهداف مسبقة حققتها، منها ما يتعلق بإجهاض اهداف ايران بتركيز نفسها في الضفة، ومنها ما يتعلق بضمان الحدود مع الاردن، ولكن يبقى ما هو اهم، وهو المتعلق بأوضاع المنطقة بعد عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي.
فالإدارة الاميركية التي تستعد لاستحقاق الانتخابات النصفية بداية شهر تشرين الثاني المقبل، فتحت ملف الصين فعلياً، وهو ما يمكن استنتاجه من زيارة رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان.
والتحضيرات الاميركية ذهبت بعيداً في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الأمنية. فوفق معلومات ديبلوماسية، فإنّ المخابرات المركزية الاميركية CIA تعمل على إعادة ترتيب برنامجها وفق مقتضيات اولوية مواجهة الصين، بعد ان كانت برامجها تضع الاولوية لمقتضيات مواجهة الجماعات الارهابية والمتطرفة، وهو ما كان قائماً منذ أحداث11 ايلول.
وجرى فتح ابواب التوظيف والتجنيد للملمين باللغة الصينية، وهذا مؤشر واضح للتركيز الجديد. ونُقل عن رئيس الـ»سي آي إي» وليم بيرنز قوله خلال احدى المحاضرات في واشنطن، أنّه «من الجيد ان نستعيد جهودنا ووجهتنا الفعلية، لقد تأخّرنا لكننا عدنا».
وهذا ما يعني أنّ حسابات الشرق الاوسط ذاهبة إلى مسار جديد، وبالتالي فإنّ الاتفاق النووي مع ايران اصبح حاصلاً، ولم يعد ينقصه سوى احتفالية التوقيع. طبعاً هذا لا يعني وضع الشرق الاوسط خارج نطاق النزاع الجديد مع الصين. لكن المقصود أنّ مفاهيم النزاع التقليدي والتي كانت قائمة خلال العقود الماضية قد تبدّلت. والإشارات الصادرة من واشنطن وطهران على حدّ سواء تؤكّد ذلك. فوزارة الخارجية الاميركية اعلنت انّ الاتفاق النووي بات اقرب الآن منه قبل اسبوعين.
وفي ايران سياسة اعلامية جديدة بدأت تفرد المساحة الأساسية لأهمية العودة إلى الاتفاق، ما يعني انّ السلطات الايرانية باشرت تحضير الشارع للقبول «بحل توافقي يحفظ مصالح ايران». لذلك قالت طهران إنّ الصفقة باتت في متناول اليد، والكرة اصبحت في الملعب الاميركي.
كل هذه اشارات قوية إلى أنّ الاتفاق انتهى، وانّ التحضيرات جارية لترتيب الاخراج المطلوب، وبدا واضحاً انّ ايران قدّمت تسهيلات عدة للمبادرة الاوروبية، ما يعني انّها تريد الاتفاق الآن، وهذا ما أزعج اسرائيل كثيراً، التي تخشى من استثمار ايران لأرصدتها المالية في اطار تعزيز اوضاع حلفائها في المنطقة وفي طليعتهم «حزب الله». وهذا ما قاله وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس، وهذا ما يثيره المسؤولون الاسرائيليون مع الادارة الاميركية.
من هنا مثلاً يمكن تفسير الضربة الجوية الاميركية منذ يومين على مواقع ومنشآت تستخدمها جماعات تابعة للحرس الثوري الايراني في منطقة دير الزور شرق سوريا.
الرسالة جاءت مزدوجة، واحدة تحذيرية لإيران على ابواب توقيع الاتفاق، بعدم الاستثمار في نفوذها في سوريا ولبنان، وثانية تطمينية لاسرائيل. وتعمّد المتحدث باسم الجيش الاميركي القول إنّ الضربة جاءت بأمر مباشر من بايدن.
واستطراداً، فإنّ اسرائيل القلقة من الإفادة التي يمكن ان يجنيها «حزب الله» جراء تحرير الأرصدة الايرانية، قد تحضر لاستهدافات عسكرية وأمنية ضده في سوريا وربما في لبنان وهو ما دفعها إلى تأمين جبهتها الداخلية من خلال الضربة التي وجّهتها الى «الجهاد الاسلامي» في غزة.
فلقد كثر الكلام في الفترة الاخيرة عن أنّ اي ضربة قد تشنها اسرائيل على «حزب الله» ستؤدي إلى اشتعال الجبهة الداخلية لاسرائيل.أضف إلى ذلك، انّ اثارة اوروبا، ولا سيما منها فرنسا، ضدّ «حزب الله» بسبب ملف ترسيم الحدود، سيجعل الحزب في موقع اصعب، ولا سيما وسط اوضاع لبنانية داخلية صعبة ومتشنجة ومأزومة.
هو ربما ما تخطّط له اسرائيل، لكن الحنكة ليست حكراً على طرف دون الآخر.