لا يمكن التعاطي ببساطة مع التعديل الذي «تسلَّل» إلى قرار التجديد لـ»اليونيفيل»، بمعزل عن السجالات الدائرة حول خلفياته. إنه مؤشر إلى الاتجاه الذي سيسلكه ملف الترسيم بين لبنان وإسرائيل، بل إلى اتجاه الأحداث في الجنوب في الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
القرار الجديد منح «اليونيفيل» هامش التحرك، على مدى عام على الأقل، من دون تنسيق مع الجيش اللبناني. وهذا الأمر يحصل للمرّة الأولى، وهو في توقيته يستدعي التوقف عند استنتاجين:
1 – أن القوى الدولية، ولا سيما منها الدول الخمس الكبرى، تتوقّع أن يشهد ملف الحدود البحرية والبرّية تطورات تستدعي أن تقوم «اليونيفيل» بدور أمني أو عسكري فيها.
2 – التعديل الذي تم اعتماده لطالما كانت تطرحه الولايات المتحدة سنوياً عند كل استحقاق تجديد، لكن «فيتو» روسيا والصين كان يمنع إقراره. ويوحي قبول المعسكر «الشرقي» بالتعديل، هذه المرّة، بأنه أيضاً في جوّ التطورات المنتظرة. وثمة من يطرح أسئلة عن احتمال وجود تقاطعات ضمنية للمصالح ومقايضات بين إسرائيل وكل من موسكو وبكين تبرِّر موافقتهما على التعديل.
الانطباع الأولي هو أن الهدف من التعديل هو تمكين «اليونيفيل» نفسها من الحفاظ على أمنها، بعدما واجهت صدامات ميدانية في بعض القرى الجنوبية، بحيث باتت تمتلك هامش التصرف في هذه المسألة من دون الحاجة إلى التنسيق مع الجيش.
ولكن، في العمق، يجدر ربط التعديل بما هو أكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، أي بملف ترسيم الحدود والسيناريوهات المتداولة في هذا المجال، وبالنقطة التي أثيرت أخيراً حول الخط الأزرق البحري الذي يُراد من «اليونيفيل» أن تتولّى أمنه، كما تتولّى أمن الخط الأزرق البري.
ولا يُستبعد أن تكون إثارة عقدة جديدة في مفاوضات الترسيم، عنوانها «إقامة خط أزرق بحري»، بوّابةً لخلط أوراق الترسيم برّاً وبحراً، ما يُغرق المفاوضات في نقاشات طويلة وشائكة تؤخّر اتفاق الترسيم البحري إلى مواعيد غير محدّدة.
وهذا المناخ المستجد، بعد زيارة الموفد الأميركي عاموس هوكشتاين الأخيرة لبيروت، يناقض المعلومات المتفائلة التي تعمّد الإسرائيليون تسريبها عن مفاوضات الترسيم طوال الأسابيع الفائتة، والتي أوحَت أن الاتفاق مع لبنان شبه مُنجز من الناحية التقنية ولا ينقصه إلا القرار السياسي بالتوقيت.
والانطباع السائد في بعض الأوساط هو أنّ الحكومة الإسرائيلية تفتعل العقدة الجديدة سعياً منها إلى تأجيل الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات التشريعية هناك. ولكن، على الأرجح، ثمة أبعاد أخرى للشرط الإسرائيلي الجديد. فهو يبيّت «قطبة مخفية» يريد منها الإسرائيليون دفع لبنان إلى تنازلات جديدة.
وللتذكير، تراجع المفاوض اللبناني تحت الضغط عن الخط 29 واعتبره خطاً تفاوضياً مقابل موافقته على الخط 23 من باب الواقعية. واليوم، إذ يدفع الإسرائيليون بعقدة الخط الأزرق إلى طاولة النقاش، وسط كلام مُلتبس يتعلق بتعديل بعض النقاط على الحدود البرية، فمعنى ذلك أنهم في صدد عملية ابتزاز جديدة ستواجه لبنان في الأسابيع القليلة المقبلة.
في المبدأ، الإسرائيليون مستعجلون لإبرام تسوية في الناقورة وبدء الاستثمار في حقل «كاريش»، في لحظة الحاجة الملحّة إلى الغاز في أوروبا. والشركة اليونانية «إينرجين باور» حددت مواعيد للاستخراج في غضون أسابيع قليلة، ولكنهم يدركون أن القيام بذلك من دون الاتفاق مع لبنان سيكون مغامرة خطرة.
وكذلك، إن «اليونيفيل»، وعلى رغم التعديل الذي منحها هامش التحرك من دون التنسيق مع الجيش اللبناني، سترتكب خطأ إذا قررت إدخال نفسها في هذه اللعبة، لأنّ المغامرة هناك تفتح الباب على حرب شرسة متشعبة الأطراف.
لذلك، ليس متوقعاً أن تغامر إسرائيل باستخراج الغاز قبل الاتفاق مع لبنان. ولكنها ستمارس مزيداً من المراوغة لتحصيل مزيد من المكاسب، وإجبار لبنان على دفع ثمنٍ أكبر. والثمن الذي تريده قد يبدأ تقنياً وأمنياً على خط الحدود البرية، ولا ينتهي سياسياً.
يدرك الإسرائيليون أن المفاوض اللبناني لن يتراجع أكثر، بعدما تخلّى عن الخط 29 لتسهيل التسوية. ولكن، ثمة مَن يخشى أن يكون الإسرائيليون في صدد الرهان على دخول لبنان مرحلة من التلاشي تجبره على القبول بشروط أدنى.
وهذه المرحلة تطل ملامحها من خلال الانهيار المالي والاقتصادي الذي بدأ ينزلق إلى مستويات أشدّ خطراً، معطوفاً على الفوضى السياسية والدستورية الآتية. وقد يراهن الإسرائيليون على أن لبنان لن يقوى على رفض الشروط الجديدة حينذاك، فينتظرون اكتمال حلقة الانهيار والفوضى في تشرين الثاني لمحاولة تسويق شروطهم الجديدة.
ولكن، يجدر التذكير: إذا كان لبنان غارقاً في الفوضى الكاملة بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وفي ظل العجز عن تشكيل حكومة، فلن تكون هناك مرجعية لبنانية قادرة على الحسم والتوقيع في الناقورة.
فهل يضغط المجتمع الدولي حينذاك لفرض التسويات كلها على لبنان في آن واحد: تسوية الرئاسة وتسوية الترسيم وتقاسم الغاز… ومعهما تسوية الوضع المالي والاقتصادي؟ وبأي ثمن؟
المصدر: الجمهورية