من يشكّ في أن القناعة بتفوّق الغرب الحضاري والأخلاقي على بقيّة بلدان المعمورة هو من بين مرتكزات تصوّره لنفسه ولهذه «البقيّة»، ما عليه سوى التوقّف بجدّية أمام تصريح الممثّل الأعلى للسياسة الأوروبية، جوزيب بوريل، عن «الحديقة» و«الأدغال». هذا التصريح هو في الواقع صفعة قوية لِمن ظنّ أن المنطق العميق الذي يَحكم سياسة الغرب ونُخبه المسيطرة حيال الجنوب، لم يَعد يستند إلى ثنائية «الحضارة» و«البربرية». يريد السيد بوريل الحفاظ على حديقته، أي أوروبا، وفيها «أفضل مزيج من الحرية السياسية والآفاق الاقتصادية والتماسك الاجتماعي»، ومنْع الأدغال، مكمن التوحّش، من «غزوها». وبما أن الأسوار لا تكفي لحمايتها، فإن «من الضروري أن تمتدّ الحديقة إلى الأدغال». نحن أمام إعادة صياغة بلغة القرن الـ21 لأطروحة «المهمّة الحضارية» التي سوّغت اجتياح الغرب للعالم في القرون الماضية. لم توفَّر ذريعة لإرسال الجيوش عبر البحار لإنفاذ هذه المهمة: من مكافحة القرصنة البحرية إلى حماية الأقلّيات، مروراً بمقاومة «التخلّف والتعصب»، ونشر «العلم والتنوير». لا يحتاج أيّ صاحب عقل سويّ لديه حدّ أدنى من المعرفة بالتاريخ، إلى أن يذكَّر بما ترتّب على هذه المهمّة من ويلات ونكبات بالنسبة لشعوب الجنوب.
يستولي الغرب اليوم على «قضية النساء الإيرانيات»، ليوظّفها ضدّ طهران المتّهَمة بالوقوف في صفّ روسيا في المواجهة الجيوسياسية المصيرية المحتدمة بين الأخيرة والقوى الغربية. غير أن هذا التوظيف الآني يندرج في إطار مخطّطات الهندسة الاجتماعية – سياسة «فرّق تسد» للتبسيط -، الطويلة الأمد، والتي طالما اعتمدتها القوى الاستعمارية حيال دول وشعوب الجنوب، والتي تسعى إلى استغلال التناقضات الداخلية أياً كانت طبيعتها، اقتصادية – اجتماعية، أو إثنية أو دينية أو طائفية، لإضعافها وتفتيتها إن اقتضت مصلحة هذه القوى ذلك. هذا ما فعلته الولايات المتحدة في بلدان مختلفة كالتشيلي في 1973، وبولندا في 1981، والعراق بعد غزوه في 2003، وما قامت به بريطانيا في الهند، وأفضى إلى انسلاخ باكستان عنها، وما ارتكبته فرنسا وبلجيكا في «مناطق نفوذهما» في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وأدّى إلى تناحرات ونزاعات أهلية وصلت إلى حدّ الإبادة، كما حصل في رواندا في 1994. المهمّ إشعال الحرائق، أياً كان الحطب المستخدَم، كما يقول المثل الفرنسي. «انتفاضة النساء»، التي تجنّدت أجهزة الدعاية والترويج الغربية الرئيسة، المرئية والمسموعة والمكتوبة، لدعمها، كان من المفترض أن تمهّد لتضافر احتجاجات جميع المعارضين للجمهورية الإسلامية، من تيّارات انفصالية في كردستان، وسيستان بلوشستان، وتجرف معها القطاعات المتضرّرة من الأوضاع الاقتصادية السائدة بسبب «الضغوط القصوى» وتداعيات الحرب الأوكرانية على أسعار الغذاء والمستلزمات الأساسية للحياة، وتنشر الفوضى في البلاد، في سياق «استراتيجية توتّر» مستحدثة.
مَن يرى نفسه «حديقة للحضارة» يريد إحراق «الأدغال» التي لم يستطع السيطرة عليها. صاحب مقولة «الحديقة والأدغال»، أي بوريل، كان قد شنّ هجوماً عنيفاً على إيران نتيجة لتورّطها، وفق زعمه، في بيْع مسيّرات لروسيا، وقمعها للمحتجّين أيضاً، متوعّداً إياها بعقوبات نتيجة لذلك. وكان موقع «بوليتيكو» الأميركي قد نقل عن مسؤول في إدارة بايدن اتّهامات مماثلة تجاه طهران، وعزم الإدارة على فرض عقوبات بناءً عليها. والحقيقة هي أن حرب العقوبات على إيران لم تتوقّف، على رغم عودة المفاوضات حول ملفّها النووي، وجميع الحجج صالحة لاتّخاذ المزيد منها. لكن اللافت هو ما جرى الكشف عنه من مقاربات أميركية لكيفية زعزعة الاستقرار فيها على خلفية موجة الاحتجاجات الأخيرة. ففي تقدير مشترك للموقف نُشر على موقع «معهد دراسات الحرب الأميركي» للباحثين، نيكولاس كارل وكيتانيه فيتزباتريك ودانا غراي وفريديريك كاغان، في الـ10 من هذا الشهر، اعتبر هؤلاء أن «الاحتجاجات الحالية المعادية للنظام في إيران قد تتفاعل مع حركات التمرّد السابقة عليها وتغذّيها. هناك 3 بؤر لحركات تمرّد منخفضة التوتر في شمال شرق وغرب إيران وكذلك في جنوبها الغربي. استخدمت هذه المجموعات، التي تضمّ عرباً وبلوشاً وأكراداً، الاحتقان في أوساط الأقلّيات المهمّشة، الناجم عن أسباب اقتصادية وسياسية، لإنفاذ أجنداتها المناهضة للنظام منذ عقود. حزب حياة حرة لكردستان وتنظيم جيش العدل هما من بين هذه المجموعات، وهما قد شنّا منذ زمن بعيد عمليات في إيران، واستهدفا أجهزتها الأمنية المختلفة بانتظام». وبعد استعراض تطوّر الاحتجاجات على الأرض، واستغلالها من قِبل المجموعات الانفصالية، يستنتج الباحثون بأن الأوضاع في إيران قد تتّبع مساراً شبيهاً بذلك التي عرفته سوريا في 2011، إذا «قاد التفاعل بين الاحتجاجات والمجموعات المتمرّدة من جهة، وردّ النظام القاسي عليها من جهة أخرى، إلى تعزيز قوى التمرّد بمختلف تشكيلاتها».
هي دعوة واضحة إلى تكرار السيناريو السوري في إيران، بمعزل عن اختلاف الظروف وموازين القوى، أي توظيف «حراك اجتماعي – سياسي سلمي» لمصلحة مجموعات مسلّحة رديفة له، كما هي حال المجموعات المسلّحة في إيران، المرتبطة جميعها بالاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، بدءاً بتلك الكردية على اختلاف مسمّياتها، وصولاً إلى «مجاهدي خلق»، ومروراً بـ«جيش العدل». هي وصْفة لمشروع يسعى لتدمير إيران، تقدَّم لسادة «الحديقة» الغربية المنهمكين راهناً في حرب يأملون في أن تؤول إلى تدمير روسيا. تعقيباً على كلام بوريل، رأت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية أن «أوروبا أنشأت حديقتها من خلال النهب البربري للغابة». كان بإمكانها أن تضيف أنها تحاول اليوم إحراقها لعدم قدرتها على تأبيد هيمنتها عليها.
المصدر: الاخبار