جاء في “الجمهورية”:
هناك همسٌ في العديد من الأوساط مفاده أنّ موقع رئاسة الجمهورية قد يستمرّ فارغاً لأعوام لا لشهور. ويذكّر البعض بأنّ الشغور الرئاسي الذي بدأ في العام 2014، قلائل اعتقدوا أنّه سيدوم عامين ونصف العام، علماً أنّ الوضع كان في تلك الفترة أقلّ تشنجاً وتعقيداً مما هو اليوم. فهل يدرك أحدٌ ما معنى أن يطول الفراغ الرئاسي الحالي إلى منتصف العام 2025 مثلاً أو ما بعده؟
ثمة باب وحيد فُتِح للبنان، في الأشهر الأخيرة، كي يخرج من الأزمة. إنّه اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل، برعاية أميركية مباشرة. فعند توقيع الاتفاق، ظهرت علامات إيجابية عدّة كان يمكن للطاقم السياسي الممسك بالسلطة أن يلتقطها ويؤسس للخروج من الهاوية، لكنه لم يفعل.
الأبرز كان إعلان الأميركيين استعدادهم لتسهيل حصول لبنان على الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، وإعلان مؤسسات تصنيف عالمية استعدادها لمراجعة تقويم لبنان السيادي بناءً على المعطى الجديد. ولكن، سرعان من انطفأت كل الإشارات الخضراء، وانشغل أركان السلطة بالصراع على السلطة.
ولكن، استنتج الرئيس نجيب ميقاتي أن لا داعي لاستمرار المواجهة مع الرئيس ميشال عون، ما دام قد وصل إلى الأيام الأخيرة من العهد. وفي تقديره أنّ قطار الحكومة سينطلق بقوة بعد ذلك، في غياب عون وفريقه. ومبدئياً، ستشهد السنوات المقبلة ورشة إعادة تأسيس هائلة للبلد ومؤسساته ومرافقه. وعلى الأرجح، سيكون لميقاتي امتياز تنفيذها.
وفي عبارة أخرى، السنوات الـ6 المقبلة، المفترض أن يشغلها العهد الرئاسي العتيد، ستشهد الانطلاق في استخراج الغاز من حقل «قانا» وسواه، ما يدرّ مليارات الدولارات على لبنان. وسيُحدَّد مسار عمل الصندوق السيادي الذي ستودَع فيه غالبية أموال الغاز والنفط.
وطبعاً، ستكون الحكومة هي المؤتمنة على أموال هذا الصندوق، وستتولّى إدارة خطط النهوض المالي والاقتصادي، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وهذا الاتفاق يريده المعنيون في لبنان، لا من أجل الدولارات التي سيحصلون عليها بموجبه فحسب، بل خصوصاً من أجل الحصول على تغطية للمساعدات العربية والدولية.
أي، في السنوات الـ6 المقبلة، يُفترض أن يكون الانهيار الحالي قد وصل إلى نهاياته، وبدأ الانطلاق نحو إعادة البناء. ويعني ذلك أنّ عشرات مليارات الدولارات ستكون قيد التصرُّف في أيدي طاقم السلطة، نتيجة تحريك المساعدات العربية والدولية وقروض صندوق النقد وسواه من المؤسسات الدولية، ومن موارد الغاز مبدئياً.
كل هذه الخطوات يمكن أن تتمّ بوجود رئيس للجمهورية. ولكن، إذا بقي ملف الانتخاب متعثّراً، فسيدار البلد «طبيعياً» من دونه، خصوصاً أنّ الحكومة الحالية تتصرّف انطلاقاً من كونها مولجة وفق الدستور بممارسة صلاحيات الرئيس بالوكالة. وسرعان ما عبّرت عن ذلك في «الجلسة» الأولى لـ»مجلس الوزراء».
وفي غياب الرئيس، يمكن أن يُعاد بناء الدولة اللبنانية، بمرافقها ومؤسساتها وقطاعاتها. ومن ذلك مثلاً، إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي سيكون الورشة الأكثر خطورة في المرحلة المقبلة، لما له من تداعيات على موازين القوى الداخلية، الطائفية والسياسية. ومع نهاية ولاية الحاكم الحالي لمصرف لبنان رياض سلامة في أيار المقبل، سيكون تحدّي التغيير أكثر إلحاحاً.
وانطلاق الحكومة الحالية بمواصفات شبه مكتملة، وإصدارها المراسيم التي تحمل توقيعاً مكرّراً لميقاتي وللوزراء الأصيلين أو المكلّفين بالوكالة عن الغائبين، سيعني أنّ البلد استغنى عن موقع رئيس الجمهورية حتى إشعار آخر. وفي الموازاة، ستنطلق قريباً ورشة التشريع في المجلس النيابي.
في غياب رئيسٍ للجمهورية لعام أو اثنين أو أكثر، سيُعاد تأسيس البلد لا على المثالثة بين المسيحيين والشيعة والسنّة، بل ستنتهي الثنائية الطائفية المسيحية- الإسلامية لمصلحة ثنائية مذهبية شيعية- سنّية.
أي إنّ الوضع سيكون أكثر سوءاً من العودة إلى «الترويكا»، التي يرفضها رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل وسائر القوى المسيحية. وفي التحليل، ستتألف الثنائية شكلاً من: ميقاتي و»الثنائي الشيعي». ولكن، فعلاً، سيكون النفوذ الأكبر داخل هذه الثنائية لـ»حزب الله».
وللتذكير، حتى الرئيس سعد الحريري الذي كان يتمتع برصيد شعبي سنّي، ويقود تيار «المستقبل» وكتلة نيابية وازنة جداً، بقي ضعيفاً داخل التركيبة عندما تولّى عون رئاسة الجمهورية. وهذا ما دفع بالسعوديين ليشجعوه على الاستقالة الشهيرة في تشرين الثاني 2017، اعتقاداً منهم أنّ ذلك ينهي سيطرة «حزب الله» على الموقع. لكن المحاولة فشلت. ولاحقاً، انسحب الحريري، هو وتياره، من السلطة والحياة السياسية. لكن ذلك، لم يؤدِّ إطلاقاً إلى إضعاف نفوذ «الحزب» الذي يبقى صاحب القوة والمبادرة في كل الأحوال. ففي العام 2016، كان يعتمد عون حليفاً متقدِّماً له على رئيس الحكومة. وأما اليوم، فهو يعتمد ميقاتي كشريك أساسي في غياب رئيس الجمهورية.
تعني هذه الحقائق أنّ الفراغ الرئاسي يرتدي أهمية مصيرية على المستوى الوطني، وخصوصاً للمسيحيين، هذه المرة. فالدولة ومؤسسات البلد المنهارة سيُعاد ربما بناؤها على ركيزتين طائفيتين بدلاً من ثلاث. وإعادة التأسيس العرجاء ستكون دائمة، إذ لن تكون للمسيحيين قدرة على استعادة التوازن المفقود في المستقبل، لأنّهم سيخسرون المبادرة تدريجاً.
هذه المعطيات هي التي تدفع إلى التقاطع بين بكركي والفاتيكان والفرنسيين على الدعوة الطارئة إلى ملء الفراغ الرئاسي، باعتباره حاجة مُلحّة للحفاظ على الطابع التعدّدي في لبنان، ولمستقبل المسيحيين فيه. وهذا هو مغزى التحذير الفرنسي المستمر من أنّ انهيار لبنان المالي والاقتصادي سيهدّده بالتفكك.
ولا يبدو الأميركيون في صدد مبادرة طارئة في لبنان حالياً، بعدما أنجزوا ملف الترسيم. ويتوقع العالمون في واشنطن مزيداً من التدهور في الوضع اللبناني. ومناخات زيارة ميقاتي للسعودية لا تحمل جديداً خارج الشرط المعروف: أخبِرونا أولاً، أين ستكونون كلبنانيين في الصراع الدائر: هل أنتم معنا أم مع إيران؟ وعلى الجواب يتقرَّر إذا كان السعوديون سيخصِّصون المساعدات للبنان أم لا.
لا شيء يمنع، مبدئياً، من استمرار الفراغ الرئاسي إلى ما لا نهاية، خصوصاً أنّ المسيحيين سيبقون عاجزين عن الخروج بمرشح رئاسي واحد، كما يفعل الشيعة في رئاسة المجلس النيابي. وهذا الفراغ سيهدِّد بموت موقع الرئاسة بسبب الاعتياد على غيابه، وبفعل الإهمال والنسيان.